لا يحسُن وصفُ الذي سُمع وشوهد أمس في القاعة المُهابة في قصر السلام، مقرّ محكمة العدل الدولية، بأنه صفعةٌ لإسرائيل، على ما قد يستطيب بعضُنا القول، ليس فقط لأن التعبير مبذول، بل أيضاً لأن منطوق البيان الذي تلته رئيسة المحكمة، الأميركية جوان إي دونوغو، لم يقصد أمراً كهذا، فلا صلة لمهمّات المحكمة العتيدة به. وأيضاً لأن أهل غزّة، في مظلوميّتهم المشهودة، لا يطلبون من مؤسّسات العدالة الدولية صفع إسرائيل، فلطالما صدرت عن الأمم المتحدة وعن مجالس وهيئاتٍ فيها قراراتٌ وبياناتٌ صفعت إسرائيل بإداناتٍ ومطالبات، ثم لم تتنزّل على أي أرض.
وإنما يطلُبون، من بين كثيرٍ يطلبونه، أن يُنصِف العالم آلامَهم، أن يُنقذهم من الإبادة الجماعية، أن يوقِف محدلة التمويت التي تستهدفهم، أن يُنجيهم من كل أوجه الإسناد العسكري والسياسي والدبلوماسي الذي تتزوّد به دولة العدوان والغزو من حلفائها، الولايات المتحدة وغيرِها. وأياً تكُن مواطن الوجاهة في "زعلنا" المحقّ من أن بيان المحكمة لم يأتِ على وقف العمليات العسكرية تدبيراً احترازياً فورياُ، ربما لأن الطرف الآخر في الحرب حركة عسكرية وسياسية، وليس دولة، ولأن ردّاً من إسرائيل على "هجوم حماس المروّع" مسوّغٌ من المحكمة لكي لا يتكرّر، إلا أنّ لنا أن نشعُر بمقادير من السرور بالذي تضمّنه البيان من إجراءاتٍ وتدابير طالب إسرائيل بها، بإلحاح، عندما ألزمها بتقريرٍ ترفعه إلى هيئة المحكمة يشتمل على ما أخذتْه من هذه التدابير التي من شأنها وقف القتل والتدمير والهدم، وكذلك تأمين كل سُبل الحماية للغزّيين، وتيسير وصول مساعدات الإغاثة إليهم، وغير ذلك من استحقاقاتٍ واجبة، تُساعد في نجاةٍ من "إبادةٍ جماعيّة" قبلت المحكمة الدعوى باتهام إسرائيل بارتكابها.
ومع الاصطفاف مع وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، في استيائها من عدم طلب المحكمة الدولية من إسرائيل وقْفاً لإطلاق النار، فإن في الوُسع أن يُجدّد أهل السياسة، الفلسطينيون والعرب، نشاطاً دبلوماسياً، من أجل استصدار قرارٍ ملزم من مجلس الأمن بهذا، بناء على الذي "فرَشه" بيان لاهاي، فقد تضمّن ما يمكن أن يبنوا عليه حراكا سياسيا لوقف أفعال القتل والتدمير ولحماية المدنيين، وأيضاً منع المضيّ في الذي اشتبه القُضاة المنصفون هناك به إبادةً جماعيّةً، وليس لهذا كله أن يحدُث إلا بوقف العدوان، فلسنْا، في الأساس، نتحدّث عن جيشٍ يعرف أخلاق الحروب في الحروب، بل لا يجوز، في مَحملٍ ظاهر، القول إن هذا الجيش يخوض حربا ضد الذين صنعوا عملية 7 أكتوبر وخطّطوا لها، وإنما يرتكب جرائم معلومة ضد الآمنين في البيوت والمستشفيات ومدارس وكالة الغوث ومراكز الإيواء، وهذه ليست، أبدا، حرباً يُرمى منها إلى الإجهاز على "حماس" وإعادة الرهائن الإسرائيليين.
لا تستخدم هذه السطور المتعجّلة لغة القانون في التعبير عن بعض الغبطة بما يمكن حسبانه انتصاراً مؤقّتاً للعدالة الدولية، فلهذه اللغة ناسُها، وإنما تتوسّل لغة السياسة والأخلاق، فتتوجّه أولاً بعظيم الشكر والتقدير إلى حكومة جنوب أفريقيا، وقد بادرَت إلى هذا الفعل الاستثنائي، الرفيع في قيمته التاريخية، بدافعٍ أخلاقيٍّ وإنساني، وإحساسٍ عالٍ بالمسؤولية في المجتمع الكوني الواسع. ولم تكن دولةٌ كبرى، وذاتُ إرثٍ نضالي معلوم، وصاحبةُ وزنٍ في فضائها الأفريقي، بل وفي السياق العالمي العريض، لتُغامِر بمكانتها، فلا تحسِب بدقّةٍ ما نوت فعلَه ثم فعلته. ولنا أن نقول إن الذي صنعتْه جنوب أفريقيا، في واحدٍ من وجوهه، كان اختباراً للمحكمة نفسها، اختباراً لمنظومة العدالة الدولية، كما صاغتها شرعيّة الأمم المتحدة ومدوّنات هيئاتها المعنيّة بالسلم والأمن، بحماية الشعوب وتأمينهم من القتل والتجويع والاحتلال والاعتداءات، ومن كل صنوف جرائم الإبادة التي لم تتوقّف إسرائيل عن اقترافها منذ كانت عصاباتٍ عشيّة نكبة التهجير الأولى في 1948 وغداتَها، وصولا إلى نكبة غزّة الراهنة، الأشدّ شناعة لا ريب.
ليعذُرنا القضاةُ المحترمون، في هيئة محكمة العدل الدولية، لو صارحناهم بالقول إن ملايين العرب، بفعل ما يتراكَم فيهم من إحباط، وبسبب ما يحتلّهم من يأس، من المجتمع الدولي ومؤسّساته السياسية والقانونية، كانوا يتحسّبون من قراراتٍ سيئة، كأن لا تقول المحكمة بولايتها في القضية التي بسطتْها جنوب أفريقيا. وكانوا يخشون صدمةً من تأثيراتٍ سياسيةٍ، فلا نسمع كثيراً مما سمعناه أمس. ولكن، طيّبٌ أن العدالة انتصرَت مؤقتا بما صوّت عليه أغلبيةٌ كبرى من هؤلاء القضاة، وهذا مطمئنٌ ومريح، ربّما يُنقص منسوب الخيبة فينا.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
خُرّافية معبر رفح
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟
الكذب والأسرى والحرب الطويلة