"عودة الوعي" عنوان كتابٍ أصدره توفيق الحكيم في 1972، ينتقد فيه مرحلة جمال عبد الناصر في مصر، و"الوعي المفقود" عنوان كتابٍ لليساري محمد عودة، أصدره في 1974، يردّ فيه على الحكيم. أما العنوان أعلاه، فلا يُنصّص التعبيريْن، لأن لا علاقة لهذه السطور بالكتابيْن، وإنما علاقتها بالذين ظهروا، في غضون المذبحة الإسرائيلية الراهنة في قطاع غزّة، وكأنّهم في حالة عودة وعيٍ، عندما جهروا بمراجعة قناعاتٍ كانت فيهم، فيما الصحيحُ أنهم كانوا (ربما ما زالوا) في حالة وعيٍ مفقود.
والمناسبة في شأن أولئك إشهار الكاتب المصري، أسامة الغزالي حرب (1947)، في عموده في "الأهرام" في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، اعتذارَه، "لشهداء غزّة، ولكل طفلٍ وامرأةٍ ورجلٍ فلسطيني"، عن "حسن ظنّه" بالإسرائيليين، وقد "كشفوا عن روحٍ عنصريةٍ إجراميةٍ بغيضة". وكان الرجل قد زار إسرائيل، مع وفد رسمي مصري، مرّة (كما أوضح)، وظلّ، منذ بدء انعطافة مصر في 1977 إلى "سلام" مع إسرائيل، مدافعا نحريرا عن التطبيع مع دولة الاحتلال، وعوقب في 1997 بـ"لفت نظر" من نقابة الصحفيين المصرية، (عضو فيها)، بسبب لقائه (مع آخرين) رئيس الوزراء الإسرائيلي، في حينه، نتنياهو، في القاهرة.
وكتبَ، في مارس/ آذار الماضي، منتقدا قرار الجمعية العامة للنقابة "حظر التطبيع مع الكيان الصهيوني"، واعتبرَه خاطئا. ولقائلٍ أن يقول إن التراجع عن الخطأ فضيلة، وإن اعتذار حرب يحسُن أن يكون مقدّرا، وهذا صحيحٌ، غير أنه في الموضع الصحّ أيضا أن يستهجِن واحدُنا أن أستاذا جامعيا في العلوم السياسية (يحمل الدكتوراة) احتاج أن تقتل إسرائيل نحو ستّة آلاف طفل في أقلّ من 50 يوما في حربٍ تدميريةٍ على ناس قطاع غزّة، ليقتنع بأن الحاكمين فيها أصحاب "روحٍ عنصريةٍ إجراميةٍ بغيضة"!
قوبل ما أعلنه صاحب "مصر تراجع نفسها" (كتاب أصدره في 1999) بتقدير من أصدقائه ومعارفه، غير أن قطاعا عريضا في الجمهور استقبل كلامَه بكثير من تبخيس قيمته، ما عكس صورة بالغة السوء لديهم عن رئيس مجلس أمناء حزب المصريين الأحرار (منصبُه حاليا)، ذلك أن أرشيفه، بحسبِهم، يضجّ بالرّقص على الحبال وركوب الموجات، قبل عضويته النشطة في لجنة السياسات في الحزب الوطني الديمقراطي، وبعد خروجه من الحزب.
ولا يصطفّ صاحبُ هذه الكلمات مع هؤلاء أو أولئك، وإنما يكتفي باستغراب عودة الوعي التي صار عليها مثقفٌ وأكاديميٌّ وحزبيٌّ وبرلمانيٌّ (سابق) بشأن إسرائيل، فالذي تقترفه طائرات جيش الاحتلال وقذائفُه وجنوده في غزّة موصول بأرشيف أسود من جرائم مريعة في فلسطين ولبنان ومصر، في وُسع رئيس التحرير السابق لمجلّة السياسة الدولية، والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية أن يُراجع أرشيفها الثقيل.
تذكّر مسألة أسامة الغزالي حرب بواقعة المسرحي المغربي الراحل (والكبير لا ريب)، الطيّب الصدّيقي، الذي زار إسرائيل عشر مرّات (كما قال)، واستقبل في منزله في الدار البيضاء، شيمون بيريس (بطلبٍ من الحسن الثاني كما قال)، إلا أنه، في لحظة عودة الوعي إليه، أعلن في بيانٍ ندمَه (لم يندَم حرب؟) عن حماسه لعلاقاتٍ مع الدولة العبرية، وقطَع صلته ببيريس، بعد أن تحالف مع شارون، الأمر الذي استنكره المخرج والكاتب والممثّل (هل تتذكّرون دوره في فيلم "الرسالة"؟)، وجعله يتّصل ببيريس مقرّعا، وأبلغه أنه لا يمكن أن يثق بشخصٍ يغيّر جلده، وكان الصدّيقي "يظنّ" أن صديقه السابق "من دعاة السلام". وعلى أيّ حال، حسنا فعل الصدّيقي، في استردادِه وعيه المفقود، بعد أن انطلت عليه، كما غيرُه، أزعوماتٌ عن سلام وفيرٍ صارت عليه إسرائيل بعد اتفاقيات أوسلو.
في الوُسع أن يُشار إلى آخرين في سياق عودة الوعي فيهم، وهم يُفاجأون، كما قالوا، بأن لدى حركة حماس، وعسكرييها في كتائب القسّام، كل هذه الكفاءة في إدارة معركةٍ شديدة القسوة، على المستويين، السياسي والإعلامي (راقبوا معركة مفاوضات صفقة التهدئة والتبادل). والواضح أن الوعي المفقود في هؤلاء، قبل اكتشافاتهم المستجدّة وبعدها، يعود إلى استخفافهم بقيمة القراءة والبحث وإعمال العقل، فيُؤثرون الإقامة في الجهل الذي هم عليه... نعم، تأتّت لحركة حماس خبرةٌ ومراسٌ وفيران، وقد احتكّوا بالعالم، غير أن التسليم بهذه البديهيّة لا يعني تغييب الرؤية النقدية تجاه الحركة، إنْ لزم الأمر، وهذا ليس وقتُه طبعا.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
خُرّافية معبر رفح
الكذب والأسرى والحرب الطويلة