نسبوا إلى بسمارك قوله إن الكذب يزيد في أثناء الحرب والانتخابات وبعد الصيْد. وأرطال أكاذيب دولة الاحتلال مهولةٌ منذ بدأت شنّ حربها وجرائمها الوحشية على قطاع غزّة وأهله. ... دعك من قصّة الأطفال الذين قطعت "خماس" (بالخاء) رؤوسَهم، فثمّة متواليةٌ من الأكاذيب يسوقُها رؤوس العدوان الحاكمون هناك لا تتوقّف.
ومنها تلك الأقوال التي يسوقها هؤلاء عن أولوية إعادة الأسرى (المخطوفين بتسميتهم) و"تحريرهم"، فليس ملحوظا أن هذا الأمر لدى نتنياهو ووزير الحرب الذي يكرهُه، يوآف غالانت، وغيرِهما من أركان المستويين الأمني والسياسي، أولويةٌ تتقدّم على كل شأنٍ في غضون الحرب النشطة، فقد قالت المقاومة الفلسطينية، في الأيام الأولى للعدوان، إنها ستُعيد جميع المدنيين ولن تبقيهم محتجزين لديها في حال توفّر ظرفٌ أمنيٌّ مناسب، غير أن ذلك الثنائي في مجلس الحرب لم يستقبلا هذه البادرة باكتراثٍ ظاهر.
بل أعمتْهما شهوة القتل، وآثرا مزيدا من القصف الأعمى الذي أخبرت المقاومة لاحقا إنه تسبّب بقتل 20 من أولئك الأسرى، من دون تعيين إن كانوا مدنيين أو عسكريين، صاروا تاليا 50، وتردّد في الأنباء إن آخرين قضوا في المجزرة التي أحدثتها غارات الطيران الحربي على جباليا أول من أمس. ولمّا صار ظاهرا أن الأسرى، مدنيين ومنهم نساءٌ، وعسكريين وبينهم ضبّاط، موزّعون في غير مكان في قطاع غزّة الذي يتّضح أن ما تعرّض له من قصفٍ يفوق، في تأثيراته ومداه، ما شهدته هيروشيما اليابانية التي قصفتها الولايات المتحدة قبل ثمانية عقود بقنبلةٍ ذرّية.
ويجوز أن يشرّق واحدنا ويغرّب، فيفترض، أو يتخيّل، أن الشيطان الذي يقعد القرفصاء في العقل الإسرائيلي، بحسب غسّان كنفاني، قد يزيّن لأصحاب القرار النافذ في حكومة جرائم الحرب في دولة الاحتلال إن من الجائز الاستغناء عن أرواح اليهود الأسرى أولئك افتداءً لدولة إسرائيل وهي تخوض حرب الإجماع، حرب الاستقلال الأخرى، حرب الوجود، مع العدو في قطاع غزّة.
ولماذا لا يذهب خيالُ من قد يتخيّل إلى استذكار قتل عصابات صهيونية تتبع الموساد يهودا في مطالع الخمسينيات في بغداد، بغرض تخويف اليهود هناك ودفعهم إلى الهجرة إلى "الوطن" في "ارض الميعاد". تُرى، هل كان وراء صرخة الأسيرة الإسرائيلية في الفيديو الذي وزّعته "حماس" قبل أيام، وتوبّخ فيه نتنياهو، افتراضٌ كهذا يبلغ هذا المدى من سوء الظنّ بالمذكور وحكومته، وبالجيش الذي لم يكن منه جنديٌّ واحد يحمي المستوطنة التي كانت تقيم فيها هذه الأسيرة، كما قالت؟ طالب أهالي الأسرى نتنياهو، في لقاءين عقدهما معهم، بأن يبادر إلى "مبادلة الجميع بالجميع"، فيُفرج عن جميع الأسرى الفلسطينيين ثمنا لتحرير جميع الأسرى لدى "حماس" (وغيرِها)، وعدد هؤلاء، بحسب المتداول وقد لا يكون دقيقا تماما، 240 شخصا.
المرجّح أن نتنياهو لن يُقدِم على خطوةٍ جريئةٍ ومغامرةٍ مثل هذه، ستعدّ هزيمةً كبرى، ليست له ولحكومته فقط، بل لدولة إسرائيل شبه النووية التي تصدّر أسلحةً متقدّمة إلى الصين والهند. والمتوقّع أن تتخلّص كتائب عز الدين القسّام وسرايا القدس، بغير كيفيةٍ، من العبء المتعب الذي يمثّله احتجازهما مدنيين إسرائيليين ومزدوجي الجنسية، وإن من دون مبادلاتٍ بأسيراتٍ وأسرى فلسطينيين. والبادي أن جهدا إيرانيا يتدخّل بهذا الاتجاه.
وإذا ما شوهدت في الأيام القليلة المقبلة سياراتٌ للصليب الأحمر تنقل أولئك إلى معبر رفح المصري، فإن من غير المتوقّع أبدا أن تتساهل "حماس" بشأن الأسرى العسكريين، وستُطالب في مقابلهم بكل الأسرى الفلسطينيين، الأمر الذي يعني معركة تفاوضٍ عسيرةً وشديدة الصعوبة، من المبكّر أن يخوض فيها أيٌّ منا، نحن كتّاب التعليقات الصحافية.
وعندما "يُجمع" الإسرائيليون على قتل كل عناصر حركة المقاومة الإسلامية، وعلى شنّ تصفياتٍ واغتيالاتٍ وجرائم في هذا الخصوص، وهم يعلنون هذا صراحة، فإن قصّة الأسرى العسكريين ستكون طويلة، على مدى طول الحرب التي لا تُنبئ الوقائع المتتالية عن نهايةٍ قريبةٍ لها.
قُصارى القول، وليس لدينا غير أن يكون لنا من القول قُصاراه، العدوان الإسرائيليّ مفتوحٌ على احتمالاتٍ غير منظورة تماما، وملفّ الأسرى عويصٌ ومربكٌ، والثقة بالمقاومة الفلسطينية في حُسن إدارته مؤكّدة، وهو متروكٌ لما قد تتدحرج إليه الحرب من وقائع ومفاجآت، غير أن في مطالع القصّة من الجانب الإسرائيلي المعتدي كذبا كثيرا.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
خُرّافية معبر رفح
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟