تشيع تسمية "الخرّافية" في العاميّات الفلسطينية، والشاميّة عموما، لتَعني القصّة الشعبية التي تتناسل منها قصصٌ وتفريعاتٌ حكائيةٌ، مسلّيةٌ، وتظلّ تمتدّ حتى تكاد لا تنتهي، وإذ كتب إميل حبيبي روايته غير المشهورة "خرّافية سرايا بنت الغول"، فإن أطنانا من القصص والحكايات من هناك، من معبر رفح البرّي (المصري)، تحتاج كفاءاتٍ وقدراتٍ عاليةً تغرِف منها "خرّافية" بنهاياتٍ مفتوحةٍ، الخيط الناظم فيها المظلوميّة الغزّية المديدة، بسبب العذابات المُتعبة (المقرفة في واحدٍ من نعوتٍ مستحقّة) التي يُكابدها الخارجون من قطاع غزّة للسفر، عبر مصر (طبعا)، إلى وجهاتهم.
هناك فوبيا متعاظِمة لدى أهل القطاع تجعلهم يخافون من الفضفضة والحديث الصريح عن العنت الفظيع الذي يتعرّضون له هناك، ذلك أن كلاما منسوبا إليهم عن هذا، للصحافة ووسائل الإعلام، سيجعلُهم عُرضةً لتبعاتٍ لا يقْدِرون على تحمّلها. وفي وُسع كاتب هذه السطور أن يجهر هنا، بلا تحرّز، إن قصّة معبر رفح في تغريبة العذابات الفلسطينية، الغزّية تعيينا، لم تُروَ بعد، لم تنفضح كما يجب أن تنفضح، لم تنكَتب كما يلزم أن تنكتب.
مع أن التفاصيل معلومةٌ وذائعة، عن سوء التعامل المتعمّد، والفوقي، الذي يرتكبه بعض ضبّاط أمن المعبر والجمارك مع الغزّيين عند العبور وعند الخروج، وعن رشاوى الابتزاز المشهودة التي تُلغي أسماء مسافرين من قوائم "منع" أمني من دخول الأراضي المصرية (هناك أحاديثُ عن رشاوى في معبر رفح الفلسطيني إبّان كان يعمل بعاديّته). ومن شديد الضرورة أن تُدوَّن قصص الناس عن هذا كله، وعن فتح المعبر ساعاتٍ وإغلاقه أياما، وعن قيودٍ مصريةٍ، مرتجلةٍ، ترى كل غزّي مشبوها، أو شأنا أمنيا، سيّما مَن تحت سنّ الأربعين، وعن التعامل شديد الرقيّ مع الأجانب، وأحيانا مع حملة جوازات السفر الأجنبية.
تلك "خرّافية" طويلةٌ لا يجوز نسيانها، ونحن منذ بداية الحرب العدوانية الإسرائيلية على أهل قطاع غزّة، بعد 7 أكتوبر، في ضجرٍ كثيرٍ من أحاديث المسؤولين المصريين، وحواشيهم من الإعلاميين، عندما يؤكّدون فيها أن معبر رفح مفتوحٌ للمساعدات الإغائية والإنسانية لأهل القطاع، وللدخول والخروج. ومبعثُ التبرّم من كل هذا الكلام الفائض أن لا لزوم له، لأن القصّة ليست هنا أبدا، وإنما في ان لا سلطة مصرية تامّة على مرور شاحنات المساعدات وأعدادها وما فيها، لأن هذا كلّه (وغيره) مرهونٌ بإرادة إسرائيلية، تقرّر رقابة تفتيشٍ لمحتويات الشاحنات، في معبر العوجا، وتضع ما تشاء من العوائق. وثالثة الأثافي أن لا أحد ممن في القطاع، مقيما أو زائرا، ومن أي جنسيةٍ (ولو كان مصريا ابن مصريّين) يخرُج (عبر معبر رفح بداهة) من دون موافقةٍ إسرائيليةٍ على خروجه. ولم تُخف السلطات المصرية ضيقَها من العوائق الإسرائيلية بشأن مرور المساعدات وتدفّقها ومسارات الشاحنات.
ومن ذرائع مستَترة في شأن وجوب السماح الإسرائيلي (والامتثال المصري في حالة عدم السماح)، تُلمّح إليها أوساطٌ مصريةٌ رسمية، أن إسرائيل سلطةُ احتلالٍ في القطاع (هل هذا صحيح؟)، وإن هناك "الاتفاق بشأن الحركة والوصول" الموقّع في عام 2005، بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، يُعطي لإسرائيل سلطة مراقبة الدخول والخروج (من معبر رفح الفلسطيني وإليه، ولا علاقة لمصر به) بكيفيةٍ حدّدها الاتفاق، حتى وإنْ غاب الأوروبيون، وإنْ سيطرت حركة حماس (أو موظفّون منها) على المعبر من الجانب الفلسطيني.
لا قول بشأن هذه الذريعة، والتحجّج بها، سوى أنها تعبيرٌ عن ضعفٍ مصريٍّ مريع أمام إرادة إسرائيلية تفرض قرارها وسلطتها. فيما البديهيّ أن المعبر مصري، (وعربي وإسلامي)، وليس ثمّة ما يضطرّ القاهرة للالتزام بمطالب تبجّح إسرائيلية، فضلا عن أن الأوْلى، والأدْعى، أن على مصر، وهي الشقيقة الكبرى للفلسطينيين، في ظروف العدوان الإجرامي الراهن وفي كل ظرف، أن تعلن خطوطا حمراءَ لازمة، وتضع كل الأولوية لحماية الغزّيين المدنيين ولعيشهم الكريم، وأن تقول بالفم الملآن إن عرقلة الجيش الإسرائيلي أي شاحنة مساعداتٍ تعبُر إلى القطاع بمثابة اعتداءٍ على مصر نفسها، فحياة الغزّيين يجدُر أن تتقدّم، في أفهام صانع القرار في القاهرة، على كل اعتبار.
لعظيم الأسف، "خرّافية" معبر رفح متعدّدة التفاصيل، تضجّ بالعذابات والآلام المريعة التي تفترس حياة أهل قطاع غزّة، حيث الإساءات إلى كراماتهم وإنسانيّتهم وآدميّتهم. وهذا قرار مجلس الأمن 2720 المُعلن أخيرا (امتنعت واشنطن عن التصويت معه، بعد أن أجرت على مشروعه تعديلاتٍ جعلتْه أجوف!) يُبقي دار لقمان على حالها، تحكّما إسرائيليا نافذا، وهواناً مصرياً لا يرضاه أيّ عربي لبلدٍ عظيم الشأن والدوْر ... الغائبيْن.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟
الكذب والأسرى والحرب الطويلة