"لو كنتُ زعيماً عربياً، لما قبلتُ وجود إسرائيل. هذا طبيعيّ، لقد أخذْنا أرضَهم. صحيحٌ أن الله وَعَدنا بها، ولكن ما شأنُهم بذلك؟"... قائل هذه العبارة الذي أعلن في 14 مايو/ أيار 1948 قيام دولة إسرائيل، رئيس الوكالة الصهيونية في حينه، أول رئيس وزراء في الدولة التي أشهَرها، ديفيد بن غوريون. يجوز أن يُطلّ الناظر في 75 عاماً مرّت على نكبة فلسطين في ذكراها اليوم من مدخلٍ كهذا. يجد غاصبُ الأرض أن من الطبيعيّ أن يكون مرفوضاً من زعامات العرب، لأنها أرضُهم، غير أن هذا طبيعيٌّ مجرّد، ذهنيٌّ، لا يتنزّل إلى الواقع. ببساطةٍ لأن بين ظهرانينا زعماء عرباً لا يكتفون بقبول إسرائيل، وإنما يرتضونها حليفاً بكلّ معنى الكلمة، ينظمّون معها مناوراتٍ عسكريةً مشتركة، ويستوردون منها أسلحة وأنظمة تجسّس، والعلاقات الاقتصادية والتجارية بين حكوماتهم وغلاة المستوطنين المتطرّفين فيها أكثر نشاطاً من علاقاتٍ عربيةٍ بينيّة.
ربما لم يستبعد بن غوريون أن تتحاوَر حكوماتٌ عربية مع دولة إسرائيل، التي شارك في قيامها بعد انتصارات عصاباتٍ صهيونيةٍ على الفلسطينيين والعرب، ارتكبت أكثر من 70 مذبحة، غير أنّ سقوف خياله لم يكن لها أن تصل إلى أن تؤولَ مصر وسيطاً بين دولة الاحتلال المعتدية ومقاومين فلسطينيين مرابطين في قطاع غزّة، ولا إلى أن تصير لإسرائيل دالّةٌ على فريقي الاحتراب الأهلي في السودان الراهن، البلد الذي جهَر فيه زعماءُ عربٌ بلاءاتٍ ثلاث ضد الصلح والسلام والتفاوض مع إسرائيل، ولولا الملك الحسين، بحسب شفيق الحوت، لكانت لا رابعة ترفض الانفراد بالتفاوض. وذلك أياماً بعد أن أكملت إسرائيل احتلال فلسطين، في النكسة المعلومة، في الحرب التي أفادت مصادر عبرية بأنّ إسرائيل أرادتها "استباقيةً" لمنع ضربةٍ عربيةٍ، كانت محتملةً، أو مرتقبةً، أو متوقعة، ... كانت مُتوهّمةً على الأصح.
ليس صحيحاً أنّ نكبة 1948 مستمرّة، وأنّ الفلسطينيين والعرب يقيمون في امتدادٍ لها. الصحيح أنّها نكبةٌ أخرى بطبيعةٍ أخرى تقيم في الراهن العربي، غيرُ موصولةٍ بالتي نتذكّرها (هل فعلاً نتذكّرها، وكيف؟)، تتنوّع فيها وتتعدّد مظاهر العُري العربي، وفي مقدّمته الفلسطيني، نلقى مستجدّاً منه في وقائع لا تنفكّ تتوالى، من جديدها أخيراً عدوان الأيام الخمسة الإسرائيلي على قطاع غزّة، الذي ذكّر من أراد أن يتذكّر بأنّ الفلسطينيين بعد 75 عاماً على تلك النكبة ما زالوا منذورين لشهوة القتل لدى الوحش الإسرائيلي، وما زالوا وحيدين، ليس فقط بلا ظهيرٍ عربيٍّ، بل أيضاً بلا قيادةٍ فلسطينيةٍ مؤسّسيةٍ.
لقد بدا الفراغ مُفزعاً، كيف لا والفلسطينيون الذين ازدحمت قدّامهم عقوداً، أقله منذ ثورة 1936، نخبٌ قياديةٌ لتمثيلهم، يروْن زياد نخالة هو من يحدّثهم عن وقائع العدوان المستجدّ، ويخطُب فيهم عن مفاوضات وقف إطلاق نار، ما يجيز القول بنعي منظمة التحرير ورئاستها ولجانها ومجالسها، والكفّ عن الرطانة البّبغائية إيّاها عن الممثل الشرعي الوحيد. وهذا ليس جديدا تماماً، وإنما أكّدته إطلالة نخّالة، بعد أن أكّدته مثيلاتٌ لها في جولات العدوان الإسرائيلي المتتالية على قطاع غزّة منذ 15 عاماً.
أما عن الزعماء العرب الراهنين، والذين لا ينفكّون يدلّلون على فقر مخيّلة بن غوريون، فلا يحسُن دسّ أيِّ منهم في نقاشٍ كهذا، في أيّ أخذٍ وردٍّ بشأن المذبحة الإسرائيلية النشطة في فلسطين، في قطاع غزّة مثلاً، المتروك لأقدار وتصاريف ليس في مقدور أي ذكاءٍ اصطناعي أو طبيعيٍّ أن ينبئ عن منتهىً لها. وهذا الحال من تنويعات نكبةٍ عربيةٍ راهنة، تُغاير التي انتدَت عنها جامعة الدول العربية، قبل أيام، وانكتبت لأحمد أبو الغيط كلمةٌ بمناسبتها، ألقاها نيابةً عنه معاونٌ له.
النكبة الماثلة عربيةٌ أكثر منها فلسطينية، منظورةٌ وليست مُتذكّرة، وإنْ للفلسطينيين حصّتهم الوازنة منها. إنْ جاء المؤرّخ على تدمير عصابات الصهاينة، والجيش الذي تشكّل منها، عشية الطرد والنهب في 1948 وغداته، أكثر من 500 بلدةٍ وقريةٍ فلسطينية، فإنّ الحادث أمام الأعين في بطاحٍ عربيةٍ في غير بلدٍ يدلّ على تنويعات النكبة الراهنة أمام أنظارنا ومسامعنا.
ادّعى قبل أيام الوزير الفاشي في حكومة الاحتلال، سموتريتش، إنّ وجود نوّابٍ فلسطينيين في الكنيست خطأٌ لم يصحّحه بن غوريون. ومن الحُمق أن يُساجل واحدُنا في سخفٍ كهذا، غير أنّ خطأً بالفعل ارتكبه بن غوريون، لمّا قال: "لقد أتيْنا وأخذنا أرضَهم، قد ينسون بعد جيلٍ أو جيلين". ... لن يأتي الجيل الذي سينسى.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
خُرّافية معبر رفح
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟