لا تُشبه الزوبعة التي يخوض فيها مثقفون يمنيون منذ أيام بشأن مجموعتين شعريتين للراحل عبدالله البردّوني (1929 – 1999)، صدرتا أخيرا في صنعاء، تلك الزوبعة التي خيضت بعيْد صدور ديوان أخير للراحل محمود درويش (1941 – 2008) "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، في بيروت في 2009. كما أنها لا تُشبه ما يُؤتى عليه أحيانا عند نشر مؤلّفاتٍ لكتّابٍ راحلين بعد وفاتهم عمّا إذا كانوا في الأصل ينوون نشرها، أو إذا ما كانت ستُرضيهم الصيغة التي صدَرَت بها، سيما إذا عوين فيها نقصانٌ في الدّقة ومقدارٌ ظاهرٌ من الأخطاء.
الزوبعة اليمنية المستمرّة فريدةٌ من نوعها، والإشكال المختلف بشأنه، ما إذا كان الحوثيون أصدروا المجموعتين الشعريتين للشاعر الشهير، والاسم الخاص في الثقافة اليمنية، عبدالله البردّوني، استخداما منهم له، فثمّة من يقول إنهم "زوّروا" قصائد للرجل في المجموعتين، تتبدّى فيهما لغةٌ "طائفية"، عندما يتهكّم على معاوية بن أبي سفيان، فضلا عن مقدّمةٍ تصدّرت المجموعتين تشيد بجماعة الحوثي، الأمر الذي يستهجنه الروائي اليمني، علي المقري، فيُشهر شكوكَه الكبيرة في نسبة بعض القصائد (ليس كلها) إلى البردّوني، ويجد في عملية إصدار المجموعتين، "المليئتين بمئات الأخطاء اللغوية والأسلوبية والعروضية"، توظيفا حوْثيا للشاعر الذي ما اصطفّ يوما مع أي جهةٍ، وبقي من رموز اليمن الواحد، والمجموع اليمني العريض.
لا يملك صاحب هذه الكلمات الكفاءة الواجبةَ لحسم جدلٍ في هذه المسألة الحساسة، فضلا عن أن نسختين من المجموعتين الشعريتين ليستا بين يديْه، لكنه، مع عدم استبعاده صدق ما تقوله جهة الإصدار الحوثية عن تسلّمها قصائد البردوني هذه من مصادر كانت قريبةً منه، وإنها بخطّ من كان يكتُب له (وهو الضرير)، لا يستبعِد أن ثمّة بعدا استخداميا في المسألة كلها، فليست وجيهةً أسبابُ امتناع "هيئة الكتاب" في صنعاء التي أصدرت الكتابين عن تشكيل لجنةٍ اقترح عارفون وخبيرون أسماءها ذات الأهلية والدراية الموثوقة بالبردّوني وشعرِه ومخطوطاته، من أجل تبيّن القصة كلها.
وإذ جرى في صنعاء ما يشبه الاحتفالية الحوثية بصدور الكتابيْن، عندما يحضُر القيادي في الجماعة، محمد علي الحوثي، المؤتمر الصحافي الخاص بإعلان "الشروع في طباعة أعمال الشارع اليمني والعربي الكبير عبد الله البردّوني"، فإن المرء يساورُه ما هو أكثر من شكوكٍ عابرةٍ في أن "وراء الأكمَة ما وراءها"، سيّما وأن أهل السلطة الحوثية في صنعاء ينوون إصدار كتاب اسمه "الحسين" سيضمّ مقالاتٍ منتقاةً للبردّوني، وهذا عملٌ مكشوف الأغراض.
استلهمت قصائدُ غزيرةٌ في الشعر العربي الحديث رموزا من التاريخ الإسلامي، الحسين وغيره، وأفادت من وقائع تاريخية، كمعارك الفتنة بعد وفاة النبي عليه السلام، غير أنها لم تنكتِب ببواعث مذهبيةٍ أو طائفية أبدا، فذلك يُشابه، في محملٍ جماليٍّ فني، الاشتغالَ على رموزٍ إغريقيةٍ وتمّوزيةٍ وفرعونيةٍ وغيرها في المدوّنة الشعرية العريضة. ومن هذا الباب، ثمّة رائحةٌ تشفّ عن مقصدٍ استخداميٍّ توظيفيٍّ للبردّوني في الذي يفعله الحوثيون هناك، وإنْ تلفّعوا بكلامٍ كبيرٍ عن مكانة هذا الشاعر يمنيا وعربيا، وموقعه الخاص في الأدب اليمني. ومن البديهي المعلوم أن الشاعر، أو الأديب عموما، حتى وإن احتفظ بأوراقٍ ومخطوطاتٍ من كتاباتٍ له لم ينشرها، لا يعمَد إلى نشر كل ما يكتُبه في كتب، بل إنه قد ينشر مقالاتٍ ونصوصا ومطالعات في الصحف والدوريات، ثم لا يجد جمعَها في كتابٍ أمرا مناسبا، ليس تبرّؤا منها، أو لحرجٍ منها، وإنما صدورا عن منظورٍ لديه إنه قد لا يجدها تعبّر عنه تماما، أو عن تجربته، وهذا خيارٌ يحسُن تقديرُه واحترامه.
وبذلك، كان الأدعى للذين نشروا المجموعتين، وينوون نشر مقالاتٍ مجتمعةٍ في كتاب، أن يتحرّزوا في الأمر جيدا، ويتثبتوا منه، ويتأكّدوا مما إذا كان عبدالله البردّوني راضيا عن هذه القصيدة أو تلك أو غير راض. ويعزّز وجاهةَ السؤال ما عوين من أخطاءٍ شنيعةٍ تضمّنتها هوامش في الكتابين. وقد كتب من كتب إن قصائد في المجموعتين ليست في سوية شعر البردّوني ومستوى لغته وأسلوبه.
هل قال صحيحا سفيرُ اليمن في "اليونسكو"، محمد جميح، إن لدى جماعة الحوثي شعورا عميقا أنها مرفوضة شعبيا، وأن اليمنيين ينظرون إليها حركةً خارج السياق الوطني، وهذا يفسّر تمسّحها بشخصياتٍ مثل عبد العزيز المقالح وعبدالله البردّوني وغيرهما؟ ربما.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
خُرّافية معبر رفح
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟