يترنّح ظلُّ الخيول
على وجه مصر العتيق
فتبكي
ويسقطُ من جفنها فارسٌ
وتموتُ القصيدة
.. مقطعٌ من قصيدة كتبها عبد العزيز المقالح في 1983، في رثاء صديقه أمل دنقل، يجوز استعادتُه، بشيءٍ من "التحوير"، لرثاء المقالح نفسِه، وجه اليمن العتيق، وجه البلاد المدمّاة، التي كانت، في زمنٍ ليس بعيدا، في أفهامنا ومداركنا، من كنّا نبحث، مثلا، عن الشعر أين يكون، بلادَ عبدالله البردّوني وعبد العزيز المقالح، وصارت في الراهن التعيس بلاد الخناجر المغروزة في لحوم ناسِها..
باغتنا أمس نبأ رحيل هذا الرجل القامة، فيما هو ثمانينيٌّ متعبٌ (مواليد 1937)، صامتٌ منذ سنوات، وإنْ غيرُ منسيٍّ أبدا. لم تعد زيارة صنعاء ميسورةً ولا محبّبة، على غير ما كانتْه في أطوارٍ سبقت الحال الحوثي الماثل البغيض. كانت النصيحة التي يحملها زائر المدينة الحميمة، من أهل الكتابة، أن يلقى المقالح، أن يُحرِز بعض وقتٍ مع "هامة اليمن"، على ما سمّاه محقّا روائيٌّ سعودي.
وهكذا فعلتُ لمّا أتيتُ صنعاء قبل 25 عاما، موفدا صحافيا لتغطية انتخاباتٍ برلمانية، سألتُ صديقي الشاعر علي جعفر العلاق إنْ أمكنه "ترتيب" الأمر، فكان لي ما سألت. كانت جلسةً قصيرةً، في مكتبٍ له، وكان رئيسا لجامعة صنعاء التي استقدَم إليها نخبةً لامعةً من الأساتذة العرب في مختلف الاختصاصات (كمال أبو ديب، رضوان السيد، علي العلاق، وغيرهم). انجذبتُ كثيرا إلى رواقيّة هذا المعلم، وأناقة روحه، ولطفِ مجاملته، وفائض دماثته.
يشتهر عبد العزيز المقالح بأمريْن: إيثاره المقام في صنعاء، فلم يغادرها إلى أي بلدٍ منذ عودته بشهادة الدكتوراة من القاهرة في 1977، وتنوّع منجزِه الثقافي، وأقول الثقافي عمْدا، فليس اللغوي والشاعر والناقد والباحث والأكاديمي اليمني العتيد صاحب منجزٍ متعدّدٍ في صفاته هذه فقط، وإنما هو أيضا صاحبُ دورٍ فائق الأهمية في بلده، في رئاسته المجمع اللغوي العلمي اليمني، ورئاسته جامعة صنعاء، ورئاسته مركزا للأبحاث والدراسات، وفي عمله مستشارا ثقافيا لرئيس الجمهورية.
ولمّا تعلّقت كتبٌ غير قليلةٍ له بقراءاتٍ في إنتاجاتٍ من الإبداعات الأدبية اليمنية، في الشعر خصوصا، فإنه في صنيعه هذا كان يؤدّي عملاً جوهريا في إشاعة ثقافةٍ نقديةٍ في بلده، يسعنا القول هنا إنها موصولةٌ بكلاسيكيةٍ ظاهرةٍ، منفتحةٍ على أنفاسٍ من حداثةٍ بدت طموحةً في أولى مجموعاته "لا بدّ من صنعاء" (1971) ثم استقرّت عالية المبنى والمعنى، وصولا إلى "بالقرب من حدائق طاغور" (2018). وإذا جاز لصاحب هذه السطور التصريح بقلة إعجابِه بمقالات الراحل الكبير السياسية، فإنه حريصٌ، في الوقت نفسِه، على إشهار إعجابِه بكثير من شعر هذا المثقف النبيل، المشعّ، وبمقالاته في الثقافة ومشاغلها.
أوفد الحوثيون إلى المقالح القياديّ منهم، صالح الصمّاد، لتُلتَقط لهما الصورة التي ذاعت، بدا فيها نجم اليمن محنيّ الظهر، مستَضعفا، نظراته حائرة، فيما الرجلُ الحوثيّ مبتهج وهو يلتقط من رفٍّ كتابا. بدا الأمر بمثابة غزوة، وبدا اليمن في تلك الصورة على غير الصورة التي أرادها صاحب "قصائد لمياه الأحزان"، واشتهاها لليمن الذي يريد، وهو يدعو غونتر غراس وأدونيس ومحمود درويش إلى غير مهرجان ومنتدى في صنعاء. لم يكن يرى بلدَه متخلّفا، على صعيد ثقافيٍّ وفنيٍّ وأدبي. كان يسيّج اليمن بعناقيد من غبطةٍ به، وهو الذي كتب: لا أحَبَّ إلى الروح/ منها/ ومن اسمها/ من بهاء المكان الذي هبطت فيه/ من جنّة الله/ بين سماءٍ وبحرٍ/ وأرضٍ ملوّنةٍ/ وفضاء.
تعلمت أجيالٌ يمنية من عبد العزيز المقالح محبّة بلدها، وفتنةَ الأدب والفن، والاعتدال والمسالَمة. كان رحمه الله ذا منزع إصلاحي، تغييريا من دون ثوريّة، وحدويا من دون مكابرة، رجلَ عملٍ وشغل، مليئا بالأصدقاء، وهو الذي سمّى مجموعة شعرية له "كتاب الأصدقاء"، وإنْ ألمحَ، مرّة، إلى خذلان بعضِهم له. كان مهموما، عن حقّ وحقيق، بالثقافة وناسها.
بدا الحزنُ مقيما فيه، على ما يظهر في كثير من شعره. نال أوسمةً وجوائز يمنيةً وعربيةً وعالمية، غير أن إجماع اليمنيين العريض على محبّته وتقديره يبقى التكريم الأثمن، وهو الذي ظلّ شخصيةً جذّابةً وجامعةً ورحبةً... رحمه الله.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
نصرٌ مؤقّتٌ للعدالة
خُرّافية معبر رفح
عودة الوعي أم الوعي المفقود؟