من على رصيف لحظة شاردة راحت جوليا بطرس تهتف: وين الملايين؟ الشعب العربي وين؟ الغضب العربي وين؟ الدم العربي وين؟ الشرف العربي وين؟ كان هتافها ضروريًا وحميمًا على نحو لافت، وقد استحالت الأغنيات رماحًا وخناجر، عدا تلك التي من قبيل: إلعب يالاه، حيث يمدد الهزء قدميه ويحال الماضي إلى الأرشيف مرغمًا.
تذكرني هذه الأغنية بمذياعي الصغير، الذي حشوته ببطاريات الجيب ليبث (وين الملايين) من إذاعة صنعاء، فقرة صوت فلسطين، صوت الثورة الفلسطينية، ويصمت بعد ذلك إلى الأبد، لكن هذه الأغنية لا تزال حاضرة بحماسها الثوري في ذهن طفل التسع سنوات بعد أكثر من ربع قرن، وقد صارت لديه شعرتان بيضاوان في مفرق شاربه تذكرانه بفلسطين والثورة وبمذياعه الذي نطق لمرة وحيدة.
تحول برنامج صوت فلسطين بعد ذلك إلى صوت منظمة التحرير الفلسطينية، بدلًا من صوت الشعب الفلسطيني، وصارت لغته أقرب إلى لغة محمد دحلان وجبريل الرجوب، بعد أن كان يتحدث بلغة أبي جهاد وأبي نضال، ثم اختزل الموقف الرسمي اليمني المساند للشعب الفلسطيني الأمر بعد ذلك في سكن طالبات ويحيى محمد عبدالله صالح.
أحببنا فلسطين منذ كنا صغارًا، هتفنا لها وغنينا، عشناها كقضية مقدسة ومظلمة ثقيلة، ساندناها كشعوب وكحكام، إسلاميين ويساريين وشيوعيين، وكنا نشتعل كجمرة غضب حين يستشهد طفل فلسطيني، ذلك قبل أن يتجه الموت إلى أراضينا، ويحل البطش بشعوبنا العربية، وتستمرئ نشرات الأخبار موت الآلاف منا بيد الأنظمة القمعية والمليشيات الظلامية التي بدا أمامها الجيش الصهيوني قوات حفظ سلام.
الآن يا فلسطين نحن من يستحق الشفقة، ومحمد الدرة سيبكي على أطفال تعز وعدن ودوما والغوطة، كما أن دير ياسين وكفر قاسم ستنتحب على بغداد والموصل ورابعة وبنغازي وطرابلس، صار وجعنا أشد وجرحنا أعمق.
لا نزال ننادي بحق العودة للشعب الفلسطيني، ننادي ومعنا ستة ملايين عراقي وسبعة ملايين سوري وملايين المصريين والليبيين واليمنيين هجرتهم جيوش ومليشيات الاستبداد وتاهوا في الأصقاع، وهؤلاء من تتساءلين عنهم يا جوليا، هؤلاء هم الدم والشرف والغضب العربي، وسيعودون حتمًا، فمهما ذهبت بالأغصان الريح، تبقى الجذور ثابتة في الأرض.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
غادروا البلكونة إخوتي!
القردعي.. جدي أنا!
كنت معلمًا في أرحب!