يحتفي المعلمون بيومهم السنوي في الخامس من أكتوبر، والذي يأتي هذا العام كسابقه والمعلم اليمني مشتت بين السجون والمنافي ومواقع الأعمال اليدوية اليومية لسد رمق أطفاله.
وقد كنت معلمًا في أرحب أثناء خدمة التدريس الإلزامي، في أرحب عثرت على الإنسان الصنعاني الطيب، في قرية خبة بني خيران، على مرمى حجر من العاصمة، ومسافة قرنين من خدمات المدينة.
درّست مواد العلوم والرياضيات والإنجليزي لطلاب المرحلة الإعدادية، ونصبني الأهالي إمامًا وخطيبًا لجامع القرية، كما خزنت بنصف إنتاج القرية من القات العقار الذي لم يكن يعرف غير ماء السماء وتراب الأرض.
أفسدتني أرحب بقاتها المجاني الفاخر، الذي تعاف بعده باقي أنواع القات في الوقت الذي تعجز عن شراء علاقية منه بما يزيد عن عشرين ألف ريال بعد ذلك.
كنت أخطب الجمعة، وينشغل كهول القرية بالضحك والمقابصة، وحين نفرغ من الصلاة كانوا يتنازعون على استضافتي وباقي الزملاء، هذا يقسم علينا وذاك يحلف بالطلاق، وآخر يسحب الجنبية ليقودنا ضيوفًا بما يشبه عملية الاختطاف.
بعد شهرين من بداية العام، قرر الآباء تنصيبي مديرًا للمدرسة، ولم تفلح مساعي إقناعهم بأن هذا القرار لا يصح كوني أؤدي خدمة مؤقتة، كما أن للمدرسة مديرًا معينًا من طرف وزارة التربية، وقالوا: نحن الوزارة، نحن الحكومة، لأتفاهم مع مدير المدرسة على تمرير الأمر أمام الأهالي فيما يبقى هو مدير المدرسة أمام الوزارة.
أتذكر صديقي شمسان محمد الخبي، كان طالبًا في الصف الثالث وعلى قدر كبير من النباهة وحضور البديهة، وأصر على صداقتي ومرافقتي في مقايل القرية، بعد ذلك كان يتوسط للطلبة لدي بروح الواثق من تنفيذ طلباته باعتباره صاحب الأستاذ.
كان شمسان طفلًا في الحادية عشرة، لكنه مسؤول ويتحمل مسؤولية تدبير شؤون عائلته التي تحتفظ بأبناء أكبر منه سنًا.
وحين كنا نغادر إلى صنعاء لإجازة أو ما شبه، كان يوصلنا إلى بيت مران بسيارته التي يبيع فيها الأبقار، ونتفق على موعد الإياب، حيث لم تكن الهواتف الخلوية قد وجدت طريقها إلينا، لنجده في الزمان والمكان المحددين حين نعود من صنعاء إلى خبة.
أتذكر أيضًا صديقي محمد أحسن، لم يكن صديقي في بادئ الأمر، كان طالبًا في الصف السابع، لكنه كان شابًا قويًا وقد تأخر عن الالتحاق بالدراسة، وذات مرة كان علي أن أعاقب طلاب صفه بسبب عدم القيام بالواجب المنزلي، وشرعت بضربهم على اليد وصولًا إلى محمد أحسن، والذي بدوره أمسك بالعصا بقبضته الحديدية، موجهًا حديثه إلي بوجه باسم: مش احنا قراش يا أستاذ!
حاولت انتزاع العصا من يد محمد أحسن مصطحبًا تجهم الأستاذ الذي يضرب التلاميذ، لكنه ظل ممسكًا بالعصا بيده المفلطحة، وهناك كان علي أن أتلطف مع الزميل محمد ليس ليسمح لي بضربه، ولكن ليدع العصا، لأن لكمة من قبضة محمد أحسن كانت تكفي لإحداث عاهة في وجه معلم لم يكتمل شاربه بعد.
محمد أحسن يلتهم قرم الذرة ويشرب الحليب والسمن كل صباح، ولا يحسن بك ضرب طالب يأكل القرم ويشرب السمن والحليب، وعلم شمسان بالوقعة فاتجه لتوبيخ محمد وتهديده بغضب الأهالي، لكنني هدأت شمسان مثنيًا على طيبة قلب محمد ومؤكدًا على أنه لم يكن يقصد إهانتي بقدر ما أراد ممازحتي بأسلوبه اللطيف.
ليس عليك أن تشهر العصا في وجه أهل أرحب، لأنهم سيكسرون عصاك ويدك أيضًا، وحين تفقد عجوز أرحبية حيلتها جراء ظلم فادح يقع عليها فإنها تقذفك بدعوات حربية من قبيل أن ينثر الله دمك في الجبال.
وحين أراد الجمهوريون فرض جمهوريتهم بقوة السلاح ومساندة الأشقاء في مصر، قاومهم في أرحب الرجال والنساء والحصى، كانوا آخر من أذعن للجمهورية، ثم لما أراد الحوثي غزوهم تركوا جثث مقاتليه للغربان، ليخرج الحوثي حينها بحكاية أن جده عليًا أخبره في المنام بأن أرحب ليست له، ثم هوى رأس الجمهورية بعد ذلك وغادر رجال أرحب بيوتهم إلى متارس الدفاع عن الجمهورية.
والواجب المنزلي مهم، لكن الضرب ليس الوسيلة المناسبة لفرض هيبته، سيما إذا كان الطالب محمد أحسن، محمد أحسن واحد.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
غادروا البلكونة إخوتي!
القردعي.. جدي أنا!
ساعتان