ليس مطلوباً، أو مفيداً، في الكفاح ضد تسليم القدس للكيان الصهيوني، بقرار من الصهيوني المتطرّف دونالد ترامب، أن ينحى جانباً المدخل الديني للقضية، إسلامياً ومسيحياً، لكن في الوقت ذاته ليس مجدياً اختزال المسألة في الصراع الديني على المدينة المقدسة.
تبدو مزعجةً تلك الأصوات التي تختطف الموضوع إلى صدام ديني، وفقط، ومزعجة أكثر أصوات تحاول حذف العنصر الديني من المعادلة برمتها.
تصفعنا CNN الأميركية بمقال للكاتبة الأميركية والباحثة في الشؤون الدينية، ديانا باس، تقول فيه إنها كانت قد درست الكتاب المقدس في العقد السابع من القرن الماضي، بشكل مكثّف خلال شبابها، مضيفة "بالنسبة لنا، لم يكن الكتاب المقدّس مجرد نص ديني، بل كان الخطة الإلهية الموضوعة للتاريخ برمته، وعرفنا عبره كيف تصرّف الله في الماضي، وكيف سيتصرف في المستقبل".
وتنتهي الكاتبة إلى أن ترامب يريد من خلال الاعتراف بالقدس لإسرائيل تذكير ناخبيه من الإنجيليين بأنه "رجل الله الذي يساهم في دفع التاريخ (كما يراه الكتاب المقدس) قدما، ويساهم في حلول نهاية التاريخ". وختمت بالقول: "ربما لا يؤمن الرئيس ترامب بهذا، لكن الملايين يؤمنون به، وهذا أمر مهم، ليس للسياسة الأميركية فحسب، بل وللسلام في القدس، وكذلك لسلامنا جميعا".
بهذه الصراحة، وبالأحرى الوقاحة، يخوض معسكر ترامب، الممتد من نيويورك إلى الرياض، المعركة على أساسٍ ديني، من خلال حملة مكثفة، ومضللة، تستهدف تلغيم الوعي العام بحزام من العبوات العقائدية الناسفة، فبأي منطقٍ يكون مطلوباً منا أن نتخلى عن المدخل الديني في النضال من أجل القدس، والأقصى، وفلسطين كلها؟.
معلوم أن الكيان الصهيوني تمت زراعته في فلسطين العربية، استناداً إلى أساطير تاريخية وتوراتية، ليجد العالم نفسه متورّطاً في أكبر عملية سرقة واغتصاب باسم الرب، بل أن المحتلين الإسرائيليين أنفسهم لا يتوقفون عن ابتزاز الجميع بتلك الأكاذيب الدينية، ويعلنون صراحة أنهم دولة دينية يهودية، لا تضيقوا رحمة الله الواسعة، ولا تحشروا النضال من أجل القدس في زاوية عقائدية ضيقة.
في ذلك كتبت قبل سنوات تحت عنوان "عرب ضد الإسلام السياسي لكنهم مع اليهودية السياسية"، تعليقاً على شراسة عرب التطبيع ضد المقاومة الفلسطينية، لأن المكون الأبرز فيها ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي، وفي اللحظة ذاتها يهرولون، علناً وسراً، صوب إسرائيل (اليهودية السياسية) طالبين الرضا والدعم، ومقبلين أيادي الحاخامات والجنرالات، وأشرت إلى المشروع التي أعلنته عضو الكنيست، أييليت شاكيد، من "البيت اليهودي"، ودافعت عنه بالقول "إنه إذا لم نحدد المبادئ التي نريد العيش بموجبها فإن الآخرين سيحددونها.. ولذلك، من المهم أن نرسّخ قيم الدولة اليهودية والديمقراطية في التشريع أساسا للدستور".
القدس قضية كل عربي، بعيداً عن التصنيفات على أساس الدين والعرق والمذهب والطائفة، كما أنها قضية الإنسان الباحث عن الحق والعدل في كل مكان وزمان. هي قضية المواطن العربي، المسلم والمسيحي والمتديّن والعلماني، اليميني واليساري والوسطي، القومي والليبرالي، لا يمكن لأي طرفٍ أن يحتكر الهتاف باسمها، ويقصي الآخرين، ولنا في مآلات الربيع العربي المثل والعبرة.
كل الأصوات مطلوبة في معركة القدس، تكبيرات أذان الجوامع، وأجراس صلوات الكنائس، وصيحات الميادين والمنتديات والشوارع، ولا ينبغي أبداً الاستسلام للفخاخ الأيديولوجية المنصوبة، والتي تسعى إلى تحويل القدس من قضية إجماع قومي إلى مسألة تناحر عقائدي، واشتباك أيديولوجي، من خلال اصطناع كانتونات فئوية خانقة.
يحكي لنا التاريخ عن سقوط الأندلس، حين تصارع ملوك الطوائف، وانكسار الربيع العربي، حين تنازع شركاء الثورة، إلى حد التحالف مع الأعداء الاستراتيجيين لثورات التغيير، ولا نريد أن تمتد اللوثة ذاتها إلى القدس.
للقدس مداخل متعدّدة من أجل الدفاع عنها، كما كان لميادين الثورات العربية مداخل متنوعة، فلا تقتلوا القضية بالانتحار الذاتي على احتكار بواباتها.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
رمضان في غزّة اليتيمة
موعد مع الملثم
أشد العبارات: الدبلوماسية على طريقة بيومي فؤاد