تمدّ غزّة بصرها إلى الجهات الأربع بحثًا عن الأشقاء، علّ أحدهم يأتيها بهدية شهر رمضان، بعض الطحين وبعض الماء والدواء، أو باستخدام وزن إقليمي أو دولي يفرض على عدوّها التوقف عن حرقها وتدميرها في هذا الشهر على الأقل، فلا تجدهم على الأرض، بل يرمون لها بعض الوجبات من الجوّ فتسقط فوق رؤوس منتظريها، فتُرديهم أرضاً.
تبحث غزّة عن كبيرة الأشقاء فتسمع من حاكمها أنها ليست كبيرة، بل ليست دولة أصلاً، وترى وزيره الأول مزهوّاً بتفقد مشروع "موقع التجلي الأعظم فوق أرض السلام"، الذي يتم تنفيذه بتكليف من القائد فخامة السيد الرئيس بالاهتمام بجميع التفاصيل الخاصّة بالمشروع، بحيث تصبح تلك البقعة المتفرّدة مقصداً عالمياً للزائرين من شتّى بقاع الأرض، من خلال مواصلة تنفيذ ذلك المشروع المتكامل بجهود حثيثة، اتساقا مع مكانة تلك البقعة المقدّسة من أرض مصر التي شرّفها الله بالتجلي فوقها، ولتقديمها للإنسانية والشعوب في أنحاء العالم على النحو الذي يليق بها تقديراً لقيمتها الروحية الفريدة التي تنبُع من كونها حاضنة للأديان السماوية الثلاثة".
تسأل غزّة عن وساطة الأشقاء التي وعدتها بأنها ستأتي لها ببعض الأمان المؤقت خلال شهر رمضان فلا تجد إلا السراب، وهي تستمع إلى راعي الوساطة في البيت الأبيض إذ يقول عشيه استطلاع هلال رمضان "لن أتخلى أبدا عن إسرائيل ولن أقطع إمدادها بالأسلحة للدفاع عن نفسها".
قبل هذا التصريح، كان بايدن يعلن عن توجيه قواته للإشراف على إنشاء ميناء أميركي على ساحل غزّة، وكأنها الكلأ المباح، يستطيع أيُّ عابرٍ أن يقتطع منها مساحة ترعى فيها قطعان البقر والحمير الوحشية، وهو نفسُه الذي كان قد أعلن، قبل أكثر من شهر، إنه تحدّث مع الرئيس المكسيكي (يقصد المصري) لفتح معبر رفح البرّي لكنه لم يكن يرغب في ذلك.
بات مستقرّاً وثابتاً بكل الدلائل أن أي كلام عن إغاثة الشعب الفلسطيني في غزّة بطرق أخرى غير معبر رفح هو حرث في البحر وزراعة في طبقات الجو العليا، ثم توقّع حصاد وفير، وتلك كان من المفترض أن تكون الهدية الأولى والوحيدة لغزّة لمناسبة شهر التراحم والانتصار للحق، لكن شيئاً من ذلك لم يحصَل، ليبقى أكثر من مليوني إنسان بلا طعام في شهر الموائد العامرة الممتدّة من المحيط إلى الخليج، وفوقها ذبائح جرى شواؤها كما شويت أجساد الأطفال والكبار في غزّة طوال خمسة أشهر، في إعلان واضح وصريح عن الانتقال من حالة الخذلان إلى حالة إسقاط شعبٍ كامل من الحسابات.
كان من المتصوّر أن يرفع الأشقاء مقتهم صمود غزة في هذا الشهر الكريم، وأن يتوقّفوا عن معاقبتها على بسالتها، وكأن جريمتها، كما قلت في بداية العدوان، أنها قاومت واستبسلت وأسقطت كل خطط العدوان الأميركي الإسرائيلي، فلا هي تخلّت عن مقاوميها البواسل أو دفعها الألم لتتبرّأ من مقاومتها، ولا هي استسلمت واندفعت لتقفز خارج خريطتها، خريطة فلسطين، كما أنها، وهذا هو الأهم، لم تتوقف عن تعليم البشرية كلها كيف تكون الجندية الحقيقية، وكيف يكون المعنى الحقيقي للوطن.
جريمة غزّة أنها أحبطت مشروع تدمير الوعي الشعبي بالقضية، فعادت المعاني والقيم النبيلة تشرق وتتألق على وجوه الأطفال، وتطمئننا على الأجيال العربية التي ولدت في عصور الظلام الروحي.
جريمة غزّة أنها هبّت للدفاع عن الأقصى حين انصرف عنه الكلّ وتركوه وحيداً أمام عربدة عصابات اليمين الصهيوني، فاختارت لمقاومتها البطولية عنوان "طوفان الأقصى" فوجدت من الأشقاء من يناصبها الكراهية على نحوٍ لا يقل عن كراهية بن غفير وسموتريتش، لأنها قرّرت ألا تكون صفحة في كتاب العجز العربي.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
موعد مع الملثم
أشد العبارات: الدبلوماسية على طريقة بيومي فؤاد
جريمة العصر: ليس للشقيق أن يكون وسيطاً