مع الإعلان عن إذاعة كلمةٍ مسجّلة للناطق باسم الفصيل الأكبر في المقاومة الفلسطينية، حبست جماهير الأمة أنفاسها انتظارًا لما سيقول، مُنصتة قبل أن يبدأ الكلام.
تكاد تشعر أن كل شيءٍ توقّف، ولم يبق ما يتحرّك سوى شلال من مشاعر اللهفة والترقب والقلق والأمل، داخل الأنفس العطشى لما يروي ظمأها للبشريات، وما يبقي اليقين في الصمود ساطعًا.
كان الناس في شوقٍ حقيقي لذلك الملثّم الشاب الذي صار زعيمًا للأمة، في جوهرها الحقيقي والسليم والمحترم، من دون أن يتعرّف على ملامحه أحد، إذ تكفي إطلالته كلما تيسّر لكي تسري شحنة جبّارةٌ من الثقة والأمل في نفوس مئات الملايين من البشر تتعلق أفئدتهم بما يجري على أرض قطاع غزّة الفلسطيني، من معارك تدور بين شعبٍ ينشد التحرير وعدو مصاب بالسعار، يطلقه أشرار العالم علينا، ويدعمونه بكل الوسائل، ويشاركونه قتل أطفال شعوبنا، ومعهم مجموعة من الصغار الذين نصبَهم الأشرار ولاة على الناس، ووفّروا لهم الرعاية الكاملة، مقابل أن يقيّدوا شعوبهم بأغلال الخوف والفقر الفاجر في بعض الأقطار والثراء الفاحش في أقطار أخرى، بوصف هذه الشعوب هي الخطر الحقيقي على الاحتلال باعتراف قياداته منذ سنوات بعيدة.
لم يكن مهمًا هذه المرة "ماذا يقول" الملثّم، فالأهم عند الناس "أن يقول"، أن يظهر ويأتي صوته الهادئ الواثق لينفض عن الأنفس المتعبة غبار الإحباط وفقدان الأمل، في حالةٍ من التبنّي والاحتضان تؤكّد أن الأمة تحارب بقلوبها وألسنتها مع أبطال المقاومة على أرض غزّة، وأنها تعتبر هؤلاء جيشها الحقيقي، وهذا الناطق باسمهم هو رمزُها وزعيمها المنتخب انتخابًا حرًا وأخلاقيًا ووجوديًا.
لم يحدُث أن انحبست الأنفاس ترقبًا لخطاب من زعيم سياسي عربي، منذ أكثر من عشرين عامًا على الأقل، مع الاحتلال الأميركي للعراق وتدميره وحرق مكتباته واستهداف تاريخه، بعد أن سقطت بغداد، واختفى الرئيس صدّام حسين، وقيادات حكومته، فكان الإعلان عن تسجيل صوتي له، ثم لنائبه عزة إبراهيم الدوري فيما بعد، كافيا لصناعة حالة من الانتظار والترقب.
قبل ذلك، كان ظهور حسن نصر الله على الشاشة عندما كان حزب الله اللبناني يقاوم العدوان الصهيوني 1996 ثم في جولة العام 2006 مما تنتظره الجماهير بشغف، في حالة تضامن واحتضان شعبي لإنجازات المقاومة.
هذه الومضات الجماهيرية الخاطفة، كانت قد انقطعت مع أفول شمس جمال عبد الناصر ورحيله في العام 1970 لتتوقّف بعدها ظاهرة الكاريزما السياسية، وها هي تعود مع الناطق باسم كتائب عز الدين القسّام، وهي حالة وجدانية لا تتعلق على المواصفات الشخصية، بقدر ما تتعلق بما يمثله هذا الشخص من مشروع وما يعبّر عنه من أفعالٍ تلتفّ حولها الجماهير وتصدّقها وتؤمن بها.
غير أن حالة الناطق الملثم المقاوم تتجاوز في اتساعها وعمقها كل ما سبقها من حالات، على نحو يجعل التعلق بها والانتماء لها والالتفاف حولها أمرًا شديد العفوية والصدق والنقاء، ذلك أننا هنا بصدد كاريزما بلا جهاز دعاية ضخم يتولى صياغتها ووضعها في قوالب إعلامية بالغة القوة والإبهار ثم تسويقها للجماهير، بل صوت يأتي من مكان مجهول، من دون صورة براقة يشرف عليها جيش من خبراء صناعة الطلة الإعلامية.
ماذا يعني كل هذه الشوق لصوت الملثم بعد انقطاع لعدة أيام اشتعلت خلالها الشائعات الصهيونية المسمومة عن استشهاده؟
الشاهد، مرة أخرى، أنه ليس شوقًا لنجم جماهيري، بقدر ما هو ظمأ شديد لكلمات تطمئن الناس على المقاومة وقدرتها على البقاء والصمود واجتراح مزيد من المعجزات القتالية والبطولات الشحيحة في هذه المرحلة القاحلة من تاريخ الأمة.
يعني كذلك أن هذه الجماهير محكومة من قبل أنظمة لا تمثلها، ولم تعد تستطيع التمثيل عليها، على الرغم من الإنفاق الهائل على مشاريع مسخ الهوية ومحو الشخصية وسحق الوعي الشعبي بجرافات الترفيه السفيه، وماكينات صناعة هيستيريا الوطنية الملوثة بكل عوادم الطغيان والإفقار والتخويف.
يعني أخيرًا أن الجماهير تقول للملثّم نعم، وتقول للمستبدّين من أصدقاء العدو وشركائه لا، وتسخر من تفاهتهم، وهم يتصنّعون علامات العجز أمام العدو، ويستعرضون مظاهر القدرة المفرطة على شعوبهم.
(العربي الجديد)
اقراء أيضاً
رمضان في غزّة اليتيمة
أشد العبارات: الدبلوماسية على طريقة بيومي فؤاد
جريمة العصر: ليس للشقيق أن يكون وسيطاً