في زمن مضى وحتى قبل سنوات..كانت تخشع لتراتيل صوته كل السهول والوهاد، جبال اليمن وشعابها والآكام والسواحل والبراري، على مدى خمسة وأربعين عاماً أو تزيد ظل متربعاً عرش الأثير،ملكاً متوجاً بالمايكروفون.
من أوائل من صدحت أصواتهم تبشيراً بالجمهورية (هنا صنعاء إذاعة الجمهورية العربية اليمنية)، وبقي راهباً مخلصاً متعبداً في محراب المذياع حتى أقعده المرض قبل سنوات، كان العيزري إذا أطل مسموعا من خلف المايكروفون يتلو بياناً أو يقرأ نشرةً تسمّر سامعوه متلهفين له كما لو أنه يردد لحناً أصيلاً،،ومترقبين حدثاً جللاً.
هكذا كنا محظوظين ونحن نسمعه حتى ما قبل سنوات،كما كان حظ أبائنا والأجداد أيضاً.
العيزري اليوم مستسلم منهك، فاقد البصر، خائر القوى، ضعيف الحال، خافت الصوت، ومع هذا أيضا ينتظر "مرتب" يعينه على التداوي بعد أن ظل لسنوات مستجدياً رحلة علاجية عجز عنها "العابثون بالمقدرات" وهم يتسابقون على تأمين مستقبلهم وأبناءهم، ويتزاحمون على حجوزات سفريات الترحال والاستطباب والاستجمام.
أستاذ المذيعين ومعلمهم وأبوهم الروحي يقبع في منزله المستأجر مخذولاً من القريب والبعيد، خمسون عاماً من العمل مذيعاً لم تشفع له بامتلاك حتى غرفة صغيرة ولا حتى سيارة أو دراجة.
زرته اليوم كما لم أعهده من قبل، لم يتعرف إليَّ إلا من خلال الصوت، وأجابني (عميت يا خليل عميت) فشددتُ من أزره أن جميع من في البلد عميَ بصراً وبصيرة، فضاع بلد أو يكاد،وانتهى جيلُ أو يوشك.
تنهمر دموعه بغزارة وهو يسأل عن الزملاء وأحوالهم، وبمرارة يتحسر(بلادنا تأكل خيرة أبناءها) ويطول بكاؤه متذكراً أحد وزراء الإعلام عندما سمعه قبل أربعة عقود وهو يقرأ الأخبار فاستدعاه وكافئه وأثنى، بينما تناساه وغفل عنه اللاحقون حتى اليوم.
لاشك أن كثيراً من "متمذيعي" اليوم قد لا يعرفون من هو العيزري؟ وهنا لا غرابة أيضاً فإنه عمى المهنة وعَمَى الزمان العابر.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
اليوم المشهود لتعز
حفلات "عقدة النقص"
مأساة شعب في "غربة البُن"