(أحرقتني لا تبكي يا محمد)، إلى جيل لا يرتبط بماضيه ولا بحاضره، هذه هي قصة آلاف الأمهات بل ربما الملايين ممن احترقت قلوبهن ولاتزال في ظل غربة الآباء جيلاً بعد جيل، وهذه هي قصة "مسعود"، بغض النظر عن مسلسل "غربة البن".
جيل تسأله من هو سلطان الصريمي، فقد يجيبك إنه محمد فؤاد، وأما عبد الباسط عبسي فقد يبدو ماجد المهندس، وهما مصدر هذا العمل في غربة البن، غربة شعب وبلاد.
جيل لا يعرف النشيد الوطني كلمات ولا تأليفا ولا أداءً، وبالسؤال عن أيوب ملحن هذا النشيد فقد يجيبك في أحسن الأحوال إنه صاحب أغنية "مهلنيش"، فيما سيكون عبد الله عبد الوهاب نعمان "الفضول"، مؤلف كلمات النشيد الوطني إن سألتهم عنه، يعني المقصود "أيش دخلك".
إلى جيل تشبث بالهوى وفقد الهوية.
(البن والطاحون وغربة مسعود وتجريح سواعد الأمهات، وركة نظرهن، ومغالبتهن الشقاء مع الناس تعويضا لغربة الآباء، وفِي سبيل تربيتنا كأبناء)، جيل لا يقرأ ولا يدرك، أعرف أن هذا استرسال قد لا يقرأه أحد لكنه ملزم لي مع قصة مسعود قصة شعب، استبدل البن بالقات.
انهال المفسبكون المستعجلون، وآخرون ممن لا يقرأون في تراثهم الفكري والثقافي ومثلهم بعض العوام، وللأسف حتى بعض الممثلين والإعلاميين انهالوا نقداً على العمل الدرامي على قناة يمن شباب (مسلسل غربة البن)، لا إشكال في النقد، ولكن المشكلة في النقد غير المستند إلى رؤية معرفية وفكرية.
صحيح هناك جوانب فنية وهفوات كثيرة سأتحدث عنها في هذا الحيّز، ولكن ما ينبغي هو الإشارة الى الفكرة العامة للمسلسل والمُنْطلِقة من واقع شعب يغترب أبناؤه جيلاً بعد جيل منذ الصغر بحثا عن حياة كريمة لم تتح في البلد من حيث الواقع الاقتصادي البائس.
لدرجة أن معظم أبناء هذا الشعب والذين تجسدهم شخصية (مسعود)، في المسلسل، يغادر البلد بعد زواجه بأسابيع تحت وطأة الحاجة والديون وعادة لا يعودون إلا وطفلهم الأول أصبح شاباً، على وقع صبر وأمل ومثابرة الزوجة التي وعدها بعودة خلال عام فقط، وهو ما تجسده شخصية "نورية ومولودها".
الطاحون، البن، مكان الحدادة، دكان العاقل، حقول البن، تجمهر الناس عند عودة المغترب منصور سعيد والتلهف على الحوالات والصدارات كما تسمى شعبيا في تعز، كل هذا في ظل عدم عودة مسعود، واقع خالص في المسلسل، جسدته منذ عقود قصيدة "مسعود هجر" للأستاذ الشاعر الكبير "سلطان الصريمي" وترجمها ألماً وحزناً وعذوبة في آن صوت الفنان "عبد الباسط عبسي" أمد الله في عمرهما.
أما الحكاية فمنبعها منطقة الحُجرية بتعز، حيث اغترب مسعود بعد زواجه مثقلاً بدينه وواقعه المر، على وعد بعودة خلال عام دون جدوى، فقد طالت به المراحل، ذهبت زوجة مسعود متحدثة الى الشاعر الصريمي عن معاناتها مع غربة زوجها طالبة منه أن يكتب لها ويعبر عنها شعرا (وإن كان ثمة من يرجح اعتماد الشاعر على واقع عام واتخاذه من قصة زوجة مسعود منطلقا للقصيدة القصة).
كتب قصيدته ذائعة الصيت "مسعود هجر"،معتمداً خطابا ولهجة شعبية واضحة وهو سر الانتشار الهائل للقصيدة لدى كل الناس في تعز ومعظم البلاد وهو ما يجهله قطاع عريض من جيل اليوم غير المرتبط بإرثه ولا حتى بملامح محددة لمستقبله.
في عموم المسلسل حكاية مهمة ولعله جدير بالمتابعة بدلاً عن تلك الأعمال الدرامية التي تلجأ إلى حكايات منفصلة يسودها التهريج، ما يُؤخذ على المسلسل بعض الأنماط من تصرفات بعض الممثلين كان ينبغي أن ينتبه لها المخرج، فليس منطقيا مثلاً المبالغة في الحرص على الماكياج وأدوات الزينة واستعراض الشعر لدى أمهات يرمزن الى حقبة ماضية ريفية، على غرار ما تقع فيه الشخصيتان الرئيسيتان "أنيسة" سالي حمادة و"شروق" نورية.
المأخذ الرئيسي على المسلسل هو عدم إشارته الى أن القصة مستوحاة من العمل الفني لقصيدة الصريمي "مسعود هجر"، وذهب الى الإشارة بأنها فكرة أشخاص، عموما الاستماع الى أغنية مسعود هجر لعبد الباسط عبسي سيوضح القصة مموسقة.
بدأ الصريمي بموال الملالاة التعزية العريقة
(الا ا ا ليه ليه ليه ليه ليه
الا وعمتي منو شقول لمسعود
الا بعامنا الاول رزقنا مولود
الا مسعود هجر وخلف المصائب
الا والبعد طال وزادت المتاعب...))
من قلة المصروف وكثرة الدين
بكر مسافر فجر يوم الاثنين
وقت الوداع سلم.. وقال: مودع
لا تحزني شا شقي سنه وشرجع
شفارقك بعد الزواج بأسبوع
العين تدمع والفؤاد موجوع
شذّكر الحناء وحمرة الخد
شذكر الزفة واليد باليد..)
إلى أن مضى وصولاً لمعاناة الأم وهي تعمل في حقول الناس مقابل تربية ابنها،
(ركّ النظر وجرحوا السواعد، وكم شيكون صبري وكم شجاهد)
ثم معاناتها مع حاجة ابنها
(احرقتني لا تبكي يامحمد...بقية الأبيات)
وصيتي يا بني تكون شهادة، بأن ابوك احرمني السعادة) بقية الأبيات.
ثم حالة التسامح لدى الأم
(لكن مسامح قد يكون معذور).
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
اليوم المشهود لتعز
حفلات "عقدة النقص"
حكاية من اليمن