كانوا هنا في صنعاء يمنحونني حس الانتماء للقطيع ، وكانت التهديدات لتبدو اقل توحشا وأنت بين أصحابك، نقتسمها بالتهكم وبذلك الإحساس أن احدا قد يتوعد المجموعة كلها ويتردد، الآن تشعر أن قطيعا من المستذئبين يتجول في صنعاء وأنت وحدك بلا نقابة حتى.
أفكر أن اثنين منهم يتسكعا الآن بين قصر البارون على طريق صلاح سالم وبين فندق المدرعات القريب، هذا لأنني مسكون بفندق دار المدرعات الذي استضاف مجموعة الدورة الصحفية التي نظمتها الأهرام، أيام كنا صحفيين بالنسبة لعواصم الدول العربية، عوضا عن فكرة شيطانية تلح علي من نوافذ قصر البارون، النوافذ القوطية تلك والشرفات الغامضة التي توحي بأن طقسا إباحيا شريرا يقام في الداخل، هناك أمام قصر البارون حيث وقف احد الزملاء يغازل فتاة مصرية ويسألها : تدرسي؟.
ومجموعة أخرى تنفث دخان الشيشة في مقهى الفيشاوي ويتحدثون بلا حماسة ثقافية من أي نوع ولا حتى حماسة وطنية ، يجردك المنفى من انفعالاتك واحتدامات الذات، كانت عايدة عبد الحميد إلى جواري والى جوار عايده نبيل الكميم وأنا أحاول تقمص شخصية ثقافية لائقة بسمعة مقهى الفيشاوي حتى أنني رحت اسأل ابن الفيشاوي عن رسام يلتقط جلستي تلك وكأنني بوضعية يوسف إدريس الجانبية وهو يتحدث بتعال لئيم عن بيروقراطية نجيب محفوظ في الثلاثية.
احضر لي رساما أخذ مائتي جنيه مقدما ومضى، أنا أصلا تفاوضت سرا على اللوحة وبمزاج من يحتكر طقسا فنيا لا يود أن يشاركه فيه احد الجالسين ، لكن الرسام لم يعد فبقيت اكز على أسناني وأسأل عايده: جيتي هنا يوم كنكي تدرسي؟.
أظن سامي غالب قد بدأ الآن في المرحلة التالية لضبط النفس والتكيف بدافع السأم، ذلك أن تكرار ليلة واحدة في القاهرة على مدى عامين قد تتلف اعتي الأجهزة العصبية وانه من المهم للغاية وأنت في المنفى أن تتمتع بغرابة الأطوار لتقرر القفز إلى مياه البحر الأحمر وقطعها إلى الضفة الأخرى ولو سباحة، أيا يكن ما ينتظرك.
على ضفاف ليل بلادك فهو اقل توحشا من ليالي المنفى ، الليالي التي تنبش فيها بحثا عن دقيقة أمان لكن الزمن يخذلك في كل مرة، ذلك أن إحساسا عميقا يخبرك أن لا أمان بعيدا عن البيت، وأن الشوارع التي ليست لك لن تقودك لغير الوجل ، حيث تعكس واجهات المحلات ملامحا لا تعود تتعرفها بمرور الوقت، في مساءات بلادك قد تحدق بعينين مرهقتين وفك أسفل متوتر في مرايا التوحش لكنها ستعكس لك ملامحك وتدرك أن الخطر وحده قد يخبرك أن هذا أنت.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
السنوار بطل الوعي الجمعي
نحتاج قُضاة شُجعان
نبدو غرباء أكثر