في 2015 تم رصد 250 مليون مهاجر في العالم لأسباب اقتصادية وسياسية، وهذا الرقم يشكل 3 % من سكان العالم، ويعقد لأجلهم مؤتمر دولي وتضيق بهم الدنيا وتتحول السياسيات وتنتعش التوجهات المتطرفة والأيديولوجيات المتشددة في الغرب حتى يصبح المهاجرون هم الرهان السياسي الأول للفوز في الانتخابات، بينما كانت نسبة المهاجرين قبل الحرب العالمية الأولى 5 % من سكان الأرض.
رافق ظهور الحدود مع نشوء الدولة والتحديث وكأن التحديث كان مرادفا للسجن في مفارقة صارخة. ومع التحديث احتلت الهجرة مكانة كبيرة لم تحتلها من قبل وغدت تحدياً أمنيا.. الحروب هي ركيزة التاريخ لكن الحدود أضاعت فرص النجاة في الحروب. على سبيل المثال كان راعي القطيع في وسط أفريقيا جنوب الصحراء يقطع مسافة يقيسها بالفصول ذهابا إيابا من الجهة الشرقية من وسط أفريقيا وحتى تخوم الساحل الغربي ثم يعود ظافرا بمواليد جديدة في القطيع، أما اليوم فقد خلقت هذه الحركة حروباً وإبادة وما يزال رقم الضحايا مفتوحاً على معظم دول أفريقيا جنوب الصحراء ومناطق أخرى في العالم.
وبهذا يمكن النظر إلى الحدود على أنها استجابة للحاجة الأمنية للأنظمة لكنها في المقابل لا تلبي حاجة البقاء للشعوب في منطقة جغرافية معينة. وكان في السابق أن تكيف ساكن الضفة على البحر كحدود طبيعية، وعمل على ترويض هذه الحدود بروح ابتكارية، وبفضل التقنية البسيطة أو المعقدة؛ فتجاوز العائق في ظل إلحاح رغبته عليه في التواصل والتبادل والمناولة، إلى أن قامت الدولة الوطنية وأول أعمالها هي رسم الحدود. لكن البحر كان عصيا على التحديد ولم يتم الاتفاق على ترسيم الحدود فيه إلا في وقت متأخر جداً وما تزال أوجه الغموض تلف الكثير من المناطق المائية.
لا تقف الحدود عائقا بالضرورة أمام انتقال وانتشار الجريمة لكنها أعاقت الحركة والعمل والتبادلات التجارية.. تبدو الحدود في صيغتها الحالية أداة موت جديدة أو موت فوق الموت وهي على نوعين افتراضية قائمة على الخرائط السياسية باعتبارها محض تميل أو تصور نراها كخطوط مستقيمة أو منحنية تعكس ألوانا جيملة ومتعددة، ونوعا ماديا قاسيا يتشكل من خلال أسوار وحواجز ونقاط تفتيش وجمارك وأسلاك شائكة وخنادق.
وإذا كان البعض يرى في الحدود مؤسسة قائمة على تعاقد طرفين يتفقان على تقاسم فضاء ما ورسم مواضع الحدود عليه، وبالتالي توزيع وفرض سلطة كل طرف منهما على المساحة التي اقتطعها لنفسه غصبا أو بالتراضي، بعدها يتحول الأمر إلى إلزام بقوة القانون وشريعة العقد، لكن الحدود هي أيضا فارق بين أشكال الحياة ومستويات المعيشة ونقائض العمران. فهي تفصل بين أناس هم في العادة من اثنية واحدة ومن بشرة واحدة ومعتقد واحد، بل ومن عائلة واحدة، لكن هناك من هو غني منعم في ضفة وآخر فقير معدم في ضفة أخرى، وهناك من هو مهمش وآخر معلوم. هناك من تغلق الأبواب دونه في المطارات والموانئ وىخر منتظر مرحب به.
لقد بُذِل جهد كبير في تأسيس وتعليم الحدود لتنشأ معها ظواهر جديدة على الصعيد الاجتماعي والأمني والاقتصادي، منها التهريب والجريمة العابرة للأوطان والهجرة والنزوح والعمالة غير المشروعة وهجرة رؤوس الأموال والأموال المنقولة والمحوّلة دون أن تدخل في سجل أو قيد. وقبل هذا النزاعات الحدودية والحروب، إذ مع ظهور دولة جديدة ينفتح باب الحروب والصراعات الحدودية.
والآن أصبح أمر الحدود أكثر تعقيدا وتعاظم معها الخطر الأمني. ومع الحدود أصبح العالم قطاعات موزعة بين النعيم والجحيم وعالم فيه قانون وحقوق، وآخر فيه ظلم وجبروت. منطقة ملاذ وأمان وأخرى طاردة فتاكة.
وأمام الإرباك الكبير الذي نعيشه واللايقين الذي نغوص فيه نشأ حنين إلى ما قبل الحدود كعمل مضاد للحدود. وحدها الجماعات المتطرفة التي تسعى إلى جعل الحدود من حديد وخرسانات أو تبحث عن أرض بلا حدود كما تفعل "داعش" التي أنشأت منطقة بين بلدين وأزالت الحدود بينهما، لكنها أراض لا قانون فيها ولا حماية وأصبحت بقعة للوحشية والقتل والسحل وبهذا تتجلى مفارقة الحدود واللاحدود.
ثم كم هي الحدود قاسية، حتى ذهنيا قاسية؟ إذ تتولد انطباعات عديدة لمجرد العبور من أرض إلى أخرى وفقا لتعليمات لوحات الحدود التي تجعلك تلمس الفارق في الألوان والإشارات والترتيب التنظيم والمعايير.
ليست الحدود هي الأطراف دوما. المطارات تعمل وظيفة الحدود إذ هناك منطقة تتجاوزها أو لا تتجاوزها. تخيل أن تقف على أرض بلادك في مطار ما ولكنك تمر حاجزا زجاجيا وقد وضع على جوازك ختم المغادرة وأصبحت في عداد من هم خارج البلاد. وفي الجو أنت معلق حتى تطأ قدمك أرض مطار جديد ربما يقع في أقصى الدولة التي دخلت طائرتك أجواءها منذ فترة إلا أنك لا تزال معلقا طالما لم تصل إلى المطار.
*مدونات الجزيرة
اقراء أيضاً
لا يسود بالدعاية فقط
حان الوقت أن تستمعوا للشعب!
كارتيل الموت في صنعاء يدافع عن المبيدات