في الثاني من أبريل (نيسان) 2022 أبرم اتفاق برعاية الأمم المتحدة بين الحكومة اليمنية وجماعة "أنصار الله" الحوثية على هدنة لمدة شهرين قابلة للتمديد، وكان ذلك إعلاناً غير مباشر يؤكد انتهاء الحرب، وأن الرياض قررت هي أيضاً منح فرص أوسع للسلام تفسح مجالاً أمام المبعوث الأممي للتوصل إلى هدنة لستة أشهر، يتم خلالها تثبيت وقف إطلاق النار وتنفيذ عدد من الخطوات الإنسانية يتقدمها فتح الطرقات وصرف المرتبات وإطلاق الأسرى كافة وفتح مطار صنعاء لوجهات عدة، ورفع القيود عن الواردات إلى مينائي الحديدة والصليف اللذين يسطر عليهما الحوثيون.
التزم الطرفان بالهدنة إلى حد كبير وبالفعل زيد عدد الرحلات إلى مطار عمان بالأردن (أيضاً وافقت الرياض على تسيير رحلات مباشرة للحجاج بين مطاري جدة وصنعاء للمرة الأولى منذ عام 2015 كبادرة للتخفيف عن المسافرين)، وفتح ميناء الحديدة للمواد الغذائية كافة ومواد البناء والنفط والغاز المنزلي، ولكن في المقابل لم يحدث أي تقدم في القضايا الحيوية التي تؤرق كل منزل يمني: فتح الطرقات وإطلاق الأسرى وصرف المرتبات التي توقفت في مناطق سيطرة "الجماعة" منذ عام 2016 بسبب إصرارها على أن الأمر مناط بالحكومة الشرعية بحجة أن الموارد الطبيعية موجودة في مناطق وجودها، بينما تمسكت الحكومة، وهي مصيبة في ذلك، بمبدأ أن الإيرادات التي تحصلها "الجماعة" يجب إيداعها في حساب يتم الصرف منه على المرتبات، وبين هذا وذاك وقع جميع الموظفين في المحافظات الشمالية في فخ تنصل الطرفين عن مسؤوليتهما الأخلاقية.
لم تتوقف الاتصالات المباشرة خلال الفترات السابقة بين الرياض و"الجماعة" في محاولة لتسريع مسار وقف دائم لإطلاق النار كبداية للدخول في المحادثات السياسية، ولكن عقدة كل اتفاق هي موازين القوى على الأرض كما أن واقع استمرار وهن "الشرعية" يفقدها أوراق مساومة وضغط، والأخطر في هذا الشأن هو استغلال "الجماعة" لحال الهدوء العسكري لتعزيز قدراتها ولتسريع إجراءات تغيير ممنهج للخريطة التعليمية والثقافية والمذهبية والإمعان في الاستيلاء على الوظائف العامة المهمة.
وأخيراً جرى الاستحواذ على الغرفة التجارية بطريقة لا علاقة لها بالقانون واللوائح المعروفة، وبلغ الأمر حد تغيير مواعيد بدء وانتهاء العام الدراسي من دون إدراك لمترتبات ذلك على التحاق الطلبة بالجامعات خارج اليمن في وقت تقلص إلى حد مقلق عدد الراغبين في الالتحاق بالجامعات الحكومية في مناطق سيطرة "الجماعة" بسبب التجريف الثقافي الحاصل في منهاجها وأساليب إداراتها.
تنازلات تاريخية
ما يجب التذكير به هو أن بلوغ تفاهمات حول مستقبل البلاد في شتى المجالات يستدعي تنازلات تاريخية وشخصية، التي بدورها تحتاج إلى شخصيات تقدم العام على الخاص والوطني الجامع على المناطقي الضيق، وإذا كان الحوثيون تمكنوا بالقسوة والبطش من تثبيت أوضاعهم في مناطق وجودهم، فإن الصراع الذي يطفو على السطح في حضرموت يثير المخاوف عند كثيرين لأن ظهور كيانات تزعم تمثيلها في الخريطة السياسية سيزيد من عملية الاستقطاب المحمومة في مناطق أخرى وسيؤدي حتماً إلى مزيد من توتر الأوضاع وسيزيد من صعوبة إيجاد فريق تفاوضي واحد، لأن كل محافظة ستطلب أن يكون لها تمثيل مستقل، وفي غياب سلطة مركزية حازمة وقادرة فإن الأمر سيتحول إلى مشهد عبثي يزيد البلد تمزقاً.
والواقع أن "الانتقالي" بدأ هذا المسار بإصراره على أن يصبح الممثل الوحيد للجنوب وهو على رغم وجوده العسكري المميز إلا أنه لم يفصح عن نضج سياسي فارتبكت خطواته وعجز عن الوفاء بالوعود التي قطعها للناس وما زال يكثر منها، وكان الأجدر به الاكتفاء بالنشاط بين صفوف الناس ككيان سياسي فمن الواضح أنه يتناقض بين خطاب حماسي وممارسات بعيدة من تطلعات الناس وأمانيهم وشكاوى فساد من ممثليه في الحكومة.
المواجهة المطلوبة
إن السياسات التي تمارسها "الجماعة" لا تجد المواجهة المطلوبة للحد من أخطار استمرارها، لأن "الشرعية" تثبت كل لحظة عن عجز فاضح في قدرتها على مواجهة التحديات المزمنة، وهي تلقي بكل أعبائها ومسـؤولياتها الوطنية على الإقليم والمجتمع الدولي وتناشدهم ليل نهار الضغط على الحوثيين مع أنها تفهم جيداً أن العالم لم يعد منشغلاً باليمن ومآسيه، لأن قياداته لم تبرهن عن قدرة على معالجة الأزمات ولا عن شجاعة لمواجهتها ولا عن حزم في علاجها.
إنني على قناعة كاملة بأن الحكم الجماعي يستدعي وجود شخصيات تحمل رصيداً وطنياً مشهوداً وإرثاً سياسياً عميقاً وتجربة طويلة في الحكم، وهو ما يفتقده المشهد الحالي الذي لا يمكنه بأية حال أن يساعد في تسيير شؤون البلاد، والمعضلة أن بيان السابع من أبريل 2022 لم يضع القواعد المنظمة التي تضبط إجراء أي تغييرات في شكل رئاسة الدولة. ويكفي هنا ملاحظة أنه وضع مخرجاً في حال الغياب الدائم لرئيس "مجلس القيادة الرئاسي"، لكنه لم يوضح كيفية التعامل مع غياب دائم محتمل لأحد الأعضاء.
وسيكون على اليمنيين إعادة التفكير في أسباب الإرباك الحاصل والبحث عن صيغة حكم جديدة تتفادى الأخطاء التي نشاهد تبعاتها السلبية اليوم، إذ إن استمرار الارتباك والفوضى والعجز سيزيد من تراكم العقبات أمام الخروج من المأزق اليمني الذي أنهك المواطن وأفقره وحطم كل آماله.
المخارج الواقعية
من الضروري اليوم استنباط المخارج الواقعية، ولكن الذين وضعوا لقيادة هذا البلد صاروا يعيشون بعيدين كل البعد من الأرض ومن الناس، وفي واقع كهذا سيكون من العبث الحديث عن وحدة القرار. ومن الملزم في البداية أن يلتقي "المجلس" مع رؤساء مجالس النواب والحكومة والشورى للبحث في جذور العجز الذي يقضي على فرص إنهاء الحرب والدخول في مشاورات سياسية، والمطلوب مواجهة صادقة نزيهة للأزمات ومصارحة الناس بما يجري فعلياً والتوقف عن استنزاف المال العام في نفقات على هيئات كان اختلاقها مجرد رغبة في إعطاء الانطباع بأن إجماعاً وطنياً حدث في السابع من أبريل 2022.
وإذا لم يتمكن "المجلس" والمـؤسسات الدستورية من لململة شتاتهم سريعاً والاقتراب من الأرض والبشر، وإذا لم يتوقفوا عن استجداء التنديد والدعم الخارجي ليل نهار، فمن المنطقي أن مسار إنهاء الحرب سيبقى مجمداً وستبقى "الشرعية" مشردة في الملاجئ مع ممثليها.
*اندبندنت عربية
اقراء أيضاً
السلام الضائع
خواطر عن احتمالات السلام
علي ناصر و"شهادته"