القاعدة الأساسية في أغلب الحروب التي لا تنتهي سريعاً هي أن نتائجها لا تكون عادة مطابقة لما أعلنه وتوخاه المخطط ورغب فيه المتحاربون، وها نحن نشاهد أمثلة حية وقريبة في ما يجري أمامنا على الأرض في أوكرانيا وما حدث في العراق والصومال، وحالياً ما نشاهده في اليمن. وفي كل حال فالحروب الطويلة يخلق لها منطق خاص وتنتج مسارات تتضارب في توجهاتها، وفي أحيان كثيرة تصل إلى حد التصادم المباشر بين الذين انضووا تحت راية واحدة في بداياتها لتضخم مصالح قادتها الذاتية.
ومن الطبيعي أيضاً أن يسفر عن تمدد زمن ورقعة الحرب تكاثر طبقات طفيلية تستغل انشغال الناس بالهرب من ويلاتها، فتستفيد هي من غنائمها غير مكترثة بارتفاع أعداد الضحايا. وفي كل الظروف فإن الغلبة في النهاية تكون للذين يتشبثون بالأرض ويبقون عليها ويصارعون لأجلها، وفي المحصلة يصل الجميع إلى حال إنهاك شديد ويضحى واضحاً أن الانتصار الصريح لن يكون لأي طرف، ويبدأ الحلفاء الخارجيون بالتفكير في الانسحاب تدريجاً تاركين مسألة الحسم إلى اللاعبين المحليين.
منذ وقت ليس بقصير، يجري المبعوثان الأممي والأميركي مباحثات مع كل #الأطراف_اليمنية والإقليمية للخروج بمسودة اتفاق سياسي، تلي الاتفاق على #القضايا_الإنسانية التي تشمل دفع مرتبات وفتح #مطار_صنعاء أمام مزيد من الوجهات المتفق عليها وإطلاق سراح الأسرى. وعلى رغم أن الأمر يبدو مقبولاً من الجميع، إلا أن الواقع يؤكد أن الشرط الذي تعلنه جماعة "أنصار الله" الحوثية بفصل الملف الإنساني عن الرؤية السياسية، يصعب القبول به من طرف "المجلس" الذي كررت كثيراً أنه لا يمتلك من الأوراق ما يكفي لجلوس ممثليه إلى طاولة المشاورات المرتقبة، عدا تمسكه بالمرجعيات الثلاث التي لا أظنها قابلة للتطبيق، وهو يدرك ذلك تماماً، ولم تعد أكثر من ورقة التوت لنجاة للحكومة.
في السابع من أبريل (نيسان) 2022، كان المؤمل من قرار الرئيس عبدربه منصور هادي التنازل عن كامل صلاحياته وتعيينه لمجلس حكم جماعي، أقول كان من المؤمل أن يكون هذا الهيكل وسيلة للم شمل الأضداد الذين هم في الوقت ذاته خصوماً لجماعة الحوثي، ولكن هذا العداء لا يمكن بأية حال أن يكون كافياً لتشكيل موقف واحد إزاء مجمل القضايا التي يعانيها المواطنون، بدءاً من حل المشكلة في الجنوب ثم أسلوب معالجة انهيار الخدمات ووقف العبث المالي والإسراف في التعيينات غير الضرورية.
تقف أمام الجميع عقدة القضية الجنوبية بحسب ما قرر مؤتمر الحوار الوطني، ولم يعد واضحاً كيف سيتم ترتيب هذا الملف الشائك ضمن أوراق وفد المفاوضات المشترك الذي تم الاتفاق عليه ضمن (اتفاق الرياض) الموقع في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 بين الحكومة والمجلس الانتقالي، وفي حين سيذهب وفد صنعاء برؤية واحدة سيكون على الوفد المشترك حلحلة كثير من التعقيدات التي تقف عقبة جادة أمام ظهوره ونقاشاته برؤية واحدة إزاء القضية اليمنية الشاملة. وقد يستدعي هذا الأمر اتفاقاً جديداً يصر المجلس الانتقالي على وضوح بنوده المتعلقة بمستقبل الجنوب في إطار الدولة اليمنية سواء بالانفصال أو بالدولة الاتحادية من إقليمين أو غير هذين الخيارين.
من الحيوي معالجة أمر مستقبل الجنوب السياسي ويجب التعامل معه من دون مماطلة من كل الأطراف، ومن غير الحكمة استمرار النهج الذي مارسه الرئيس هادي في تشتيت القوى الجنوبية واستغلال المال العام وتاريخ العلاقات البينية الجنوبية المضطربة لإضعاف الجميع والتحكم في توجهاتهم وإخضاعهم لسلطته. ومن الإلزامي على المجلس الانتقالي الاعتراف أنه ليس ممثلاً حصرياً لكل القوى الجنوبية، ومن ثم عليه التعامل بواقعية وعقلانية مع معارضيه، وتفعيل حوار داخلي يسهم في التهدئة جنوباً وعدم المغالاة في استبعاد الأطراف الأخرى. ومن دون ذلك، سيظل الجنوب مشتتاً بين قوى سياسية واجتماعية صار بعضها مسلحاً وله نفوذ متنام لا يعترف بسلطة المجلس الانتقالي كممثل وحيد للجنوب.
وفي اللحظة ذاتها يبدو منطقياً وإنسانياً الإصرار على وجوب فصل الملف الإنساني موقتاً، إذ يعرف الجميع مفرداته وشروطه وليس في هذا ما يستدعي تجميد البحث في تفاصيل كثيرة متعلقة بملف المشاورات السياسية المرجوة، لأن أوضاع المواطنين لم تعد تحتمل انتظار تحاذق السياسيين المقيدين بأهداف بعضها حزبي وبعضها ذاتي وبعضها مزايدات شعبوية. ومن تجربة السنوات الثماني السابقة فعلى "الجماعة" تقديم الالتزامات الأخلاقية والسياسية باستخدام كل الموارد التي تجمعها في صرف المرتبات وتشغيل المستشفيات وإصلاح الخدمات التي انهارت بسبب الحرب وعدم الصيانة.
اليمن أمام فرصة يمكنها التخفيف عن معاناة المواطنين، ولكن هذا مرتبط بارتفاع منسوب التحلي بالمسؤولية الأخلاقية والوطنية من كل الأطراف، وعليهم استدعاء التجربة اليمنية السابقة التي حدثت في 1970 حين تمت المصالحة بين الجمهوريين والملكيين، وتم بموجبها عودة الجميع للداخل واستيعابهم عدا أسرة آل حميد الدين الذين استثناهم الاتفاق من حق العودة. وأمر هكذا لا يمكن حدوثه من دون وجود قيادات نزيهة ومتعالية أخلاقياً ووطنياً ومستعدة لمعالجة الجراحات وتقبل الجميع، الجميع مواطنون لهم كامل الحقوق وعليهم كامل الواجبات.
تعجز القيادات اليمنية على التسامي والتسامح وبث الروح الوطنية الجامعة، وتمتنع عن استخدام لغة تصالحية بعيدة من إحداث مزيد من الأحقاد والتنافر في بلد لم يعد أبناؤه يحتملون الانهيارات اليومية في كل مناحي الحياة التي يعيشونها بأقل القليل الذي يلبي احتياجاتهم الأساسية.
*نقلاً عن إندبندنت عربية
اقراء أيضاً
السلام الضائع
هل تعثر مسار إنهاء الحرب في اليمن؟
علي ناصر و"شهادته"