التقيت الرئيس علي ناصر محمد للمرة الأولى في منزله بدمشق مع صديقي الراحل الصحافي عبدالحبيب سالم في نهايات عام 1992، وذهبنا إليه بصحبة الصديق محمد الشطفة سفير اليمن حينها الذي رتب لنا الموعد. وكان الغرض من زيارتنا هو محاولة جمع الرئيس السابق بالقياديين في الحزب الاشتراكي سالم صالح محمد الأمين العام المساعد للحزب، ومحمد سعيد عبد الله عضو المكتب السياسي اللذين اتفقنا معهما على اللقاء هناك.
وبحسب ما تسعفني الذاكرة فقد كان أول لقاء بينهم منذ أحداث الثالث عشر من يناير (كانون الثاني) 1986 التي مثلت البداية لتشققات الحزب السياسية وللمجتمع في جنوب اليمن لما أحدثته من استقطابات قبلية ومناطقية ما زالت آثارها ماثلة أمام الجميع.
كنت أنا والراحل عبدالحبيب سالم متفقين على أهمية تماسك الحزب الاشتراكي واستمراره كقوة فاعلة مؤثرة، ولهذا يحتاج إلى مصالحة تاريخية حقيقية بين رفاق الأمس. ولم يكن أي منا عضواً في الحزب أو في أي حزب آخر، ولكن المهم بالنسبة لنا كان بقاء التوازن السياسي بين الحزب الاشتراكي أمام قوة التحالف بين الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وتنظيمه السياسي المؤتمر الشعبي العام، والشيخ عبدالله الأحمر، ومعه التجمع اليمني للإصلاح، كما كنا مستوعبين أن قيادات الحزب الاشتراكي دخلت إلى الوحدة اليمنية من دون فهم حقيقي للمتغيرات الجذرية التي حدثت خلال سنوات حكم الرئيس صالح داخل المجتمع في شمال اليمن، ولم يكونوا يفهمون طبيعة التحالفات القبلية والمناطقية.
كان اللقاء بين علي ناصر وسالم صالح هادئاً انعكاساً لشخصيتهما، لكنه لم يكن كذلك بينه ومحمد سعيد عبدالله (محسن). ولا شك كانت متانة علاقته بالرئيس صالح وانحيازه إلى مواقفه عاملاً مؤثراً في فشل مساعينا، كما كان لأحداث 13 يناير تراكماتها التي لم تكن تسمح بتجاوزها والقفز فوق تبعاتها، وقد تبين هذا بجلاء عندما ساند علي ناصر الرئيس صالح في حرب صيف 1994 التي بينت عمق الشقاق بين الزمرة والطغمة اللتين أفرزتهما مأساة يناير 1986. وهكذا فشل مسعانا وغادرنا دمشق بعد أن مررنا للسلام على الرئيس الراحل القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي كان قد اتخذ من دمشق مستقراً له بعد حركة 13 يونيو (حزيران) 1974.
تجمعني وعلي ناصر لقاءات كثيرة في أي مدينة نوجد فيها بالصدفة، وهو شخصية لا يمكن إنكار أدواره التاريخية وتأثيره في الواقع السياسي الذي عاشه اليمن شمالاً وجنوباً منذ يوم الاستقلال في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، كما أنه ما زال يتمتع بحيوية وحضور سياسيين، بغض النظر عن مساحات الاتفاق والاختلاف معه، وهو أمر منطقي وطبيعي بالنسبة لشخص شارك في كل الأحداث اليمنية سلباً وإيجاباً.
وقبل أيام تمكن الصحافي الاستقصائي جمال المليكي في برنامجه الوثائقي "المتحري" من الغوص في أحداث 13 يناير 1986 التي كان المتهم الرئيس في تفجيرها الرئيس علي ناصر، كما يقول خصومه، وأثار الجزء الأول من التحقيق ضجة حول شهادة الرجل على الأحداث باعتباره أحد صناعها المهمين، كما استعان المليكي بشاهدين مستقلين يتمتعان بصدقية عالية هما منصور هائل وعبدالكريم قاسم، وكذلك المؤرخ حسن عبدالله. والثلاثة لم يشاركوا في الأحداث، بل هم شهود عليها، وكانوا قريبين من مسرحها الدامي.
الضجة التي أحدثتها شهادة علي ناصر تثير الاستغراب، ليس من زاوية ابتعادها عن اللياقة فقط، بل للمبررات العجيبة التي طرحها المنتقدون، فهم يتمسكون بنظرية (أن الوقت غير مناسب)، وآخرون يقولون إن "الحديث في هذه القضايا يعيد فتح ملفات يجب إغلاقها"، والبعض يرى أن على الرئيس السابق (الاعتذار فقط).
لقد وجدت في ظهور الرئيس علي ناصر شجاعة يتوارى كثير من المشاركين والشهود عن مماثلتها، مفضلين الاختباء وراء الصمت عن سرد شهادتهم في الأحداث التي كانوا حاضرين فيها، وكانت لهم أدوار لا تقل أهمية عن دوره فيها. وليس هناك من سبب لهذا التهرب، إلا أنهم لا يمتلكون جرأة الحديث وتحمل المسؤولية، أو أنهم يخشون الكشف عن الحقيقة فيصيبهم رذاذها.
عندما كتبت شهادتي عن عهد الرئيسين الراحلين إبراهيم الحمدي وعلي عبدالله صالح كشاهد على بعض أحداثها أو فاعل في بعض منها لم يكن هدفي كتابة تاريخهما، ولم أحاول لعب دور المؤرخ، ولكني مقتنع بأن هذا أمر بالغ الأهمية ويتيح فرصة لمن يعرفون أكثر، وشاركوا بفاعلية أكبر أن يصححوا أو يضيفوا، ولكن الاكتفاء بأن "الوقت غير مناسب" هو تهرب مستغرب عن الحديث. وحينها، تعرضت لانتقادات لم أعرها بالاً، ولم ولا أهتم بها، لأنني لم أكن خصماً لأي منهما، ولا يهمني تلميع أحدهما وتبرئة الآخر أو النيل منهما.
قبل أشهر قليلة عرضت تلفزيون "BBC" فيلماً وثائقياً جريئاً ومثيراً بعنوان "من قتل جدي؟" عن اغتيال السياسي اليمني وزير الخارجية السابق محمد أحمد نعمان في بيروت، ورفضت الشخصيات التي تمتلك يقيناً المعلومات عن الحادثة سرد شهاداتهم لمعدة الحلقة حفيدة الشهيد مي محمد نعمان، وبالحجة الواهية نفسها "الوقت غير مناسب"، وهي مضحكة ومقلقة حين يكون المطلوب شهادتهم قد بلغوا سناً لم تعد تسمح لهم بالخوف من فقدان الوظيفة أو السعي إليها.
لست في موقع القول إن ما سرده الرئيس السابق لليمن الجنوبي علي ناصر محمد هو الحقيقة، ولكنه أحسن العمل بقبول الإدلاء بوجهة نظره عن الأحداث، وعلى الذين يرون في شهادته خللاً يستحق التصحيح، فالفضاءات الإعلامية لا حدود لها، وسيكون ذلك عملاً يتيح الفرصة للفرز بين الغث والسمين وبين الحقيقة والكذب. أما الاكتفاء بالشتم والنيل من تاريخ الرجل واتهامه عبر السباب واللعن لن يتيح للناس والأجيال معرفة ما حدث كوقائع بأدلة مقنعة ومثبتة.
المطلوب أخلاقياً ووطنياً من كل شاهد ومشارك في الأحداث التاريخية اليمنية كتابة وقول روايته في وجود كثير من الشخصيات التي كانت، وما زالت، على قيد الحياة، أطال الله في عمرهم جميعاً، وحينها سيكون من السهل فرز الزيف من الحقيقة، وسنستطيع تفسير ما جرى وأسبابه المنطقية وكيف يمكن تجنبها في المستقبل. ويجب عدم الركون على مصدر واحد للتاريخ قد تؤثر الأهواء الشخصية على أحاديثه وكتاباته، وربما أيضاً سيعمل على تبرئة نفسه أو النيل من خصومه الأموات على وجه الخصوص.
إن كتابة التاريخ أمر في غاية الأهمية للشعوب ليحفظ ذاكرة الأوطان، وعلى الشهود الرد والتفنيد عوضاً عن الصمت المريب.
اقراء أيضاً
السلام الضائع
هل تعثر مسار إنهاء الحرب في اليمن؟
خواطر عن احتمالات السلام