أما المشاهدة وبعد،
عل امتداد ليالي رمضان ومن اليوتيوب شاهدت حلقات هذا المسلسل بفارق يوم تالٍ عن كل حلقة، وشاهدتً إلى جواره حلقات متفرقة من مسلسلات يمنية. اعترف بداية أني لست صديقا جيدا للتلفاز العربي ولا متابع نهم للمسلسلات بأي لغة. منذ ان غادرت اليمن حيث كنت اشاهد القنوات العربية سيما الإخبارية منها فانا الان اشاهد التلفاز الفرنسي خصوصا الاخبار والبرامج الثقافية والوثائقيات وافلاما اشاهد مقطع مصورة من التلفون بشكل كبير. واتلصص على المسلسلات العربية اشاهد من هنا نبذة ومن هناك نبذة من باب ألا يموت الانسان جهلاً. وربما الغربة دفعتني الى متابعة الدراما اليمنية مؤخراً إلى جانب فضول معرفي صرف. فوجدت في مسلسل العالية ما يناسبني.
وقد أكون وغيري كثر ممن تابعوه وجدوا فيها غايتهم لأنه أكثر التزاماً تجاه الحال الراهن ومنطلقاته تعكس الصراع/ المعركة الحالية. اي ان جانبه الجيوبوليتيكي كان مثيرا للاهتمام إلى حد كبير ما لم يكن غالباً.
سأكتب هنا انطباعاتي الخاصة كمشاهد والتي راكمتها خلال أيام المشاهدة دون تدوين انما ما علق في الذاكرة دون منهجية معينة ولا التزام بنقد ثقافي بقدر ما هو تعبير عن امتنان للقائمين على المسلسل والذي أتمنى ان تتسع صدورهم لما سأكتب.
هذا المسلسل المكوّن من ثلاثين حلقة تقارب الحلقة 40 دقيقة هو عمل درامي ذي نكهة تاريخية يقترب في بنائه السردي إلى العمل التوثيقي من حيث قدرته على الالتصاق بأحداث واقعية تاريخية دون الالتزام الحرفي بالإكراهات التقنية والمنهجية للعمل التوثيقي. إنما يقدّم إعادة تركيب لحياة متخيلة دامغة في الذاكرة العامة الشفاهية لليمنيين. يستمد العمل مصداقيته في نقله أسلوب حياة بكل ما فيها من بؤس وتغول واستبداد وصلف ولكن بتطابق حرفي مع ما وصل إلينا شفاهية من الأباء والاجداد عن فترة الإمامة قبيل الثورة في اليمن.
يبدأ المسلسل بشارة غنائية حميمية جداً وأصيلة أعيد بناءها بأدوات عزف متنوعة من طرف موسيقي مبدع هو محمد القحوم. شارة فيها من الالحاح والتشبث ما يجعلها لا تفلت من الذاكرة. لكن عيبا صوتياً جعل كلمات الشارة باهتة لا يستطيع الواحد الامساك بها وبهذا ضاعت حيويتها. إلى الآن لم اتمكن من الامساك بكلمات الشارة.
وقد لا يكون هذا هو العيب الصوتي الوحيد، شخصيا اظن أنى أمسكت بعيب صوتي أخر كان في أحد المشاهد حيث يضرب احدهم الأرض بمعول ويردد اهزوجة إلا أن الصوت منفصل عن الواقع ويشير بوضوح انه نتاج استيديو سيئ العزل.
وفي سياق الصراع الحالي في اليمن وتوظيف وسائل التواصل، تغلب على هذا العمل الدرامي الرسائل النضالية ولا يمكن تصنيفه إلا ضمن الدراما الموجهة والملتزمة engaged.
لكنه تكثيف لتصورات اجتماعية للصراع، تصورات انضجتها الممارسات السلطوية العنصرية والتخبط المقاوم فيقع العمل في وصم قادح وظاهر لشريحة اجتماعية بالعموم ضمن خط نضالي ناشئ يعيد رسم ملامحة الهوية الوطنية بأثننة الصراع والتلميح بنفي إسلام هذه الشريحة أو نسبتها الى اليهودية.
فضلا عن ذلك تبرز النسوية داخل العمل بتبويء المرأة ادوار صانعة التحولات وماكينة النضال التي لا تكلّ. هذه الرسالية تنشأ من توليفة متضادة في أدوار المرأة ربة البيت وراعية الحقل وذات حضور جسدي مقتصر على اركان الغرف واحتفاء بالعجز النسائي (هذا مش وقتنا) مع مضاعفة فاعلية القوة الناعمة للأنوثة/للأم ولكن ايضا ماكينة الخطاب المقاوم وحاجز الصد العنيد.
فهي حرمة ومرة ونسوان لكنها بنت فلان ومش انا اللي يستسلم.
برأي، الفكرة المحورية في "العالية" كانت صراعا على الأرض/ الحق. وفي هذا تطابق مع فكرة القومية اليمنية الجديدة التي تبتغي تحطيم الجبروت التاريخي الحقيقي او المتخيل لخصومها القائم على أحقية روحية اجتماعية اساسها تصور دين/مذهبي وعملت لتنال من قداسة الجغرافيا لصالح مركزية السلالة/الدين/المذهب.
يقسّم المسلسل المجتمع الى قطبين. أولاً عالم المدنية وهو عالم مسطّح ليس له وجه ولا ملامح ومركز الفعل فيه هو بيت الحاكم الذي يتربع على قمة الهرم الاجتماعي وما دونه قصص القصر و"مكائد الحريم" على الطريقة السلطانية ثم عساكر بلا وجه ولا طموح ولا أحاسيس باستثناء الجندي العاشق وحبيبته التي تعمل في خدمة سيدة الدار ويلقيان صنوف العذاب.
ثانياً القرية بكل ما فيها من ثراء، وتنوع وسعة وأفق. طبوغرافيا ساحرة وحياة حقيقية، أشخاص بيوت، أسماء، حيوانات وتفاصيل يومية وموسمية، حياة موت، دفن. وتراتبية اجتماعية واقعية. صحيح ان هناك أدوار نمطية مرسومة لكل شريحة وفئة اجتماعية.
لكن القرية تجسد الإنتاج، السعي، الروحانية البسيطة، المجتمع المكون من رجل وامرأة - حيث صورتها او صوتها ليسا عورة انما هناك امراءة متعددة الأدور، جدة، ام، عاملة في الارض، وعاشقة وأخرى مكافحة على سمعتها ولقمة عيشها -، والثأر والحسد والتنافس المميت.
والقرية فضلا عن ذلك هي موضوع السلطة وغاية الصراع وميدان رماية المركز. من المفارقة في " العالية" أن القرية كانت السرة، كانت المركز بينما المدينة هي الهامش.
أظن ان هذا العمل الدرامي يمكن تصنيفه ضمن الأعمال الجيدة قليلة الكلفة. ربما لو تفرت أموال كافية لامكن انتاج المدينة او المركز، لامكن انتاج سوق، قصر، محكمة... إلا أن العمل الدرامي كله وطيلة ثلاثين حلقة دار في ستة بيوت وثلاث غرف تقريبا لا أكثر.
حتى القرية ظهرت بعض المفارقات منها مثلا أن الشيخ كان يلجأ إلى ساحة عامة للتشاور واتخاذ القرارات الهامة وهذا أراه مخالفا للواقع. في العادة تكون المجالس او ديوان الشيخ رمزية السلطة وغرفة اتخاذ القرارات.
خلافا للمسلسلات الرمضانية الأخرى التي لم تقنعني في مضمونها وربما كانت أكثر صنعة في التمثيل إلا أنها في عالم اخر غير عالمنا وبعضها يميل الى التهريج والامتاع من خلال اعتساف المشهد وتشويه الزمان والمكان السردي. ينتصب مستبسل العالية بتماسك كبير في كل جوانبه. وهذا جعله مثيرا للاهتمام والنقد والمتابعة. فهو مسلسل محلي اجتذب النخب اليمنية التي اعتادت الهروب من الانتاج الدرامي المحلي وغرقت في ذوق الانتاج العالمي، وشروطه، وقيوده، وامكانيته.
لذا أكبر نجاح لهذا المسلسل كان الاحتفاظ باهتمام هذه الشريحة طيلة شهر التي رغم يمانيتها إلا أنها في تكوينها الثقافي غير يمنية. لا ارجو أن يفهم الأمر على انه قدح في بنية المثقف اليمني، وسينمائيا ودراميا على وجه التحديد.
يهمني الحديث عن "العالية" وسبق وقلت أنه يمتاز بالمنحنى التصاعدي للحبكة الدرامية المتضاعفة على نحو ملفت. هناك قدرة هائلة على ابتكار مسار شره للشرور في بساطة البيئة اليمنية وطيبة اليمنيين.
مقابل مقاومة مقهورة للظلم مبالِغة في الشكوى وعاجزة أحيانا عن التشخيص السليم للمشكلة وابتكار مسار دفاعي فاعل وتواكلية وقَدَرية، هناك من طرف الحاكم واعوانه استبسال لا مثيل في حبك الدسائس وتوظيف العقل والدين والأعراف للوصول إلى الغاية السياسية وتملك الأرض حتى بأقذر الوسائل.
اجمالاً، يعاب على العمل منبريته الفاضحة والتلقين المباشر بالمشهد التالي والفكرة التالية والموقف القادم وهذا يحد من تحفيز خيال المُشاهد على العكس لو كانت الرسالة ضمنية. هذه المباشرة هي واحدة من اوجه ضعف البناء السردي الى جانب تعدد مستويات الخطاب وتقويل الشخصيات مقولات تتجاوز موقعهم المكاني او مستواهم التعليمي ناهيك عن تصحيف للكلام العامي تارة أو إغراقه في محلية ضيقة.
... يتبع
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
لا يسود بالدعاية فقط
حان الوقت أن تستمعوا للشعب!
كارتيل الموت في صنعاء يدافع عن المبيدات