خطرت لي البدلة السوداء، مضى زمن وانا ارتدي البدلة السوداء ذاتها، الأسود هذا يجعل المساء يتكرر وهي اصلا بدلة نوم كنت قد اشتريتها من معرض ملابس يوشك على الافلاس ولقد باعني اياها تقديرا للصحبة فهي كما يقول "حائط الصد الاخير" يقصد لمواجهة الشتاء، هذا الرجل قد أفلس بسبب جنوحه لتمجيد اللغة واصراره على التمتع بموهبة أدبية، شأن الكثيرين ممن ينتهون للإفلاس بعضهم بسبب الشعر والبعض الاخر كما هو حال صديقنا المشترك الذي قام جلال الصلاحي بتعريف افلاسه بلهجة متهكمة: قا هو شاعر.
كان رجل اعمال هذا الذي باع لي البدلة السوداء، وهو لحظة بيع البدلة قد انتقل للمرحلة الاخيرة من رحلة المال والأدب، بقي يتنقل وفقا لاهتماماته اذ اجتذبته السياسة من التجارة والاعمال الرابحة الى الاكتفاء بمعرض ملابس، ذلك انه قرأ كتاب راس المال وقام بمشاركة تاجر صعد من بين جموع البروليتاريا الرثة فنهب البروليتاري الذي لم يعد رثا رأس مال التاجر الاشتراكي تاركا له كتاب رأس المال والرثاثة اللائقة بمن يمضون مقتفين خطى الأفكار.
في المعرض قرأ روايتي وروايات على المقري والكثير من مجموعات القصص القصيرة من تشيخوف الى كتاب القصة اليمنية اثناء ما يتكئ على خمس نسخ من كتاب رأس المال هي اشبه بهستيريا معرفية لرجل تثقف بحماسة حد الاصرار على انه لا تكفي قراءة واحدة ولا اثنتين حتى لكتاب الاقتصاد الانساني الذي تعلم منه كما يقول الفارق بين القيمة والثمن ولكنه في تلك الاثناء دفع الثمن الفادح عمليا اذ انه لا أحد يربح من بطون الكتب غير الادراك، الإدراك الانساني بوصفه عزاء لكل الخسارات.
اليوم صادفته اثناء خروجي لشراء الروتي كما اعتدت دائما من تأجيل هذا النشاط الى حين ارتداء البدلة والخروج بها، بقي يتأمل ما قال عنه متانة النسيج، وراح يوقفني بإصرار ليشرح لي ان هذه تباع في امريكا بأكثر من مائة دولار، بينما لا تتعدى كلفتها الانتاجية بضعة سنتات، هكذا تحدث عبد الكريم بلكنة من يكشف مؤامرة راس المال وتنويعا على نظرية اقتصادية هي كل الذي تبقى لرجل كان يوما يسافر بعد المغرب الى طنجة هربا من ضجر القات مبددا هناك الاف الدولارات عند الفجر ويعود في التالي، شخصيته قلقة ولربما يكون لذلك القل تأثير اضافي بجانب جنوحه المعرفي اللذين انتهيا به الى الرصيف.
لا يزال يثق بالعلم وبالبدلة ويسأل: دخل الشتاء؟ يقصد الاشارة لوظيفة البدلة وهو لا يدري انني من النوع المعكوس بيلوجياً اذ ارتدي الملابس الثقيلة صيفا وفي الشتاء اجنح للتخفف على سبيل العناد.
قلت انه لم يعد ثمة فارق في احساس اليمني بالطقس فها انت تجلس على الرصيف بثوب ابيض خفيف وكأنك في الحديدة، ويا صديقي عبد الكريم اعدك بالحفاظ على البدلة السوداء هذه فهي تذكار من صداقة رجل آمن باليوتوبيا واقتفى خطى المقولات فخسر واقعه لكنه كما يبدو لم يفقد احترامه للعلم.
قبل ان اغادر ارتجل عبد الكريم ملاحظة ذكية للغاية وخطيرة اذ نوه للانطباع الذي يتلقاه مؤخرا من مقالاتي وكأنني اكتب وانا على السطح بملابسي الداخلية ارتجف ذهولا ووجودا في قبضة الصقيع، حتى ان افكارك اشبه بملاسة فولاذ بارد ينبش القلب.
أفزعني تعريفه هذا وتنبهت للمرحلة التي وصل اليها من خلال تعريفه الملهم القاطع للهجتي في الكتابة مؤخرا، في الدرج فكرت في المآلات، الرصيف حيث تصطك اسنان من خسروا حياتهم والتقط بعضهم ادراكا مأساويا باعث على الدهشة والرثاء .
حسنا يا صاحبي سأستدفئ بالذي تبقى من هكذا صدفة مع حكاية شعب على الرصيف وقد اهترأت أنسجته الأصيلة ودفع ثمنا فادحا مقابل ما تعلمه ومالم يتعلمه من مباغتات دنيا تسرب صقيعها الى عظامك حتى وانت محصن داخل بدلتك السوداء.
وبدأت اكتب وانا في البدلة محاولا ارتجال لكنة مختلفة عن صقيع الاسطح المكشوفة والوجود المتخفف وإذا بي اجنح رغما عني الى تعريف عبد الكريم لكلماتي: صقيع فولاذ ينبش القلب.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
السنوار بطل الوعي الجمعي
نحتاج قُضاة شُجعان
نبدو غرباء أكثر