كان علي عبدالله صالح مغمورا خارج دائرة الجيش ولم يكن ضمن دائرة الأحداث، لكن اسمه لمع عندما كان قائدا لمعسكر (خالد بن الوليد) غرب مدينة تعز، حين كلفه الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي بتنفيذ أمر إقالة (المقدم) درهم أبو لحوم من موقعه كقائد عسكري لمحافظة تعز، ثم عينه خلفاً له، واستمر في موقعه طيلة فترة رئاسة الحمدي ثم الغشمي الذي كان يعلم بطموحه، وأخبرني أحد الذين عاصروا تلك الفترة أن الغشمي لم يكن يسمح لصالح بالبقاء في صنعاء لفترات طويلة، لما شعر به من تطلعاته بعد أن أصبح الوصول إلى سدة الرئاسة غير محكوم بقواعد معروفة، وجاء مقتل الغشمي ليفتح أمامه الباب واسعا، ليحقق حلماً كان يتصوره الكثيرون غير معقول.
في صباح 24 يونيو (حزيران) 1978 أعلنت وفاة الغشمي في المستشفى بعد ساعة من نقله إليه، وكان التقرير الطبي مخيفاً، في وصف الحالة التي وصل بها، وعاشت صنعاء قلقاً مرعباً وارتباكاً غير مسبوق، وتم الإعلان عن تولي القاضي عبد الكريم العرشي (رئيس مجلس الشعب التأسيسي) مهام القائم بأعمال رئيس الجمهورية بحكم موقعه على رأس السلطة "التشريعية".
لم تمر ساعات حتى وصل (الرائد) علي عبدالله صالح من تعز، إلى مقر القيادة العامة مباشرة، وسيطر علـى المشهد العسكري برغم وجود قيادات أعلى منه رتبة وتجربة، وأكثر منه حضوراً في المشهد العام، وفي ذات اليوم تم الإعلان عن تشكيل (مجلس رئاسة الجمهورية) وضم كل من عبدالكريم العرشي وعبدالعزيز عبدالغني وعلي عبدالله صالح وعلي الشيبة)، لتبدأ بعدها مرحلة عصيبة لاختيار البديل.
لم يكن اسم علي عبدالله صالح – حينها - مطروحا في أي فترة كخليفة محتمل، وفور وصوله الـي صنعاء حدث صراع غير معلن بين رغبة العودة إلى حكم مدني، وإرادة الاستمرار بالقبضة العسكرية تحت مبرر الظروف التي أحاطت بالبلاد، ولم ير الكثيرون فيه كفاءة لإدارة الدولة في ظروف غير طبيعية، وإن ظهر طموحه لبعض من عرفوه عن قرب، بعد بلوغ الغشمي أعلى مراتب السلطة، ويقال إن المرحوم اللواء محمد ضيف الله قائد القوات الجوية وقتها هو الذي حشد قادة الجيش لمساندة صالح في مواجهة الداعين لتثبيت القاضي العرشي رئيساً.
صار واضحا بعد وصول صالح إلى صنعاء أن ميزان القوى العسكري يميل لصالحه، وخصوصا بعد إعدام سالم ربيع علي في 26 يونيو (حزيران)، إذ تسبب غياب رئيسين يمنيين خلال 48 ساعة في نشوء حالة هلع عند كل الطبقة السياسية وفي عموم الشمال، على عكس الأوضاع في الجنوب الذي كان التنظيم الحاكم فيه ممسكا بقوة بكل مفاصلها ولا توجد به أي معارضة حقيقية للحكم، كما أن القاضي عبدالكريم العرشي لم يكن يحظى بدعم القوات المسلحة التي لم تشأ عودة الحكم المدني مرة أخرى بعد ان آلت الأمور اليها في 13 يونيو 1974، ونشأ صراع خفي بين العرشي وصالح حسمه العسكر، وكذا رغبة الإقليم وتقديره لأهمية استمرار الحكم العسكري في ظل أوضاع لا تحتمل العودة إلى الحكم المدني .
استمر الجدل حتى ليلة 16 يوليو (تموز) 1978، وتم حسمه خلال زيارة قام بها المرحوم علي بن مسلم أحد كبار مستشاري العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي أخبرني خلال لقاء معه في منزله بجدة صيف1995 أنه بقي في صنعاء لأيام قليلة التقى فيها أغلب القيادات القبلية والعسكرية، ثم عاد بقناعة أن (علي عبدالله صالح) هو الأنسب لتلك المرحلة وبضرورة أن تقدم له المملكة الدعم لتثبيت الأوضاع واستقرارها.. وفي 17 يوليو اجتمع مجلس الشعب التأسيسي برئاسة القاضي العرشي وتم انتخاب صالح رئيسا للجمهورية.
لم تكن أشهر صالح الأولى سهلة في ظل المخاوف المتزايدة داخليا وإقليميا، اذ كانت المناطق الوسطى تشهد تمردا مسلحا تسانده السلطة في الجنوب، كما جرت محاولة انقلاب ضده في 15 أكتوبر (تشرين أول) 1978 قادتها مجموعة تنتمي إلى التنظيم الناصري الذي كان قريبا للحمدي، ولم يستمر إلا ساعات قليلة، وفي نفس الليلة تم إلقاء القبض على أغلب قياداته، وجرت محاكمتهم بصورة عاجلة.. وفي 27 من الشهر نفسه تم إعدام ثمانية من العسكريين المشاركين في المحاولة، وفي 5نوفمبر (تشرين الثاني) تم تنفيذ حكم الإعدام في اثني عشر مدنيا كانوا عصب التنظيم الناصري، ولجأ عدد آخر إلى عدن.
استمر صالح في استخدام أدوات الحمدي المدنية نفسها، لكنه أحكم قبضته على الجهاز العسكري والأمني، ووضع العديد من أبناء قريته وقبيلته في المواقع الرئيسية بالجيش لتأمين حكمه في بداياته، وأبقى الأجهزة الأمنية دون تغيير حتى شهر مارس (آذار) 1979، حين أطاح برئيس المخابرات محمد خميس وعينه وزيرا للداخلية ثم وزيرا للإدارة المحلية في العام التالي، ثم جرى اغتياله في 1981 على طريق الحديدة - صنعاء.
خلال الأسبوع الأخير من شهر فبراير (شباط) 1979، تطورت المناوشات المتكررة بين مشائخ المناطق الوسطى وأفراد (الجبهة الوطنية) إلى اشتباكات عنيفة بين القوات الشمالية مسنودة بالجماعات الإسلامية والقبائل، والقوات الجنوبية مدعومة بقوات (الجبهة الوطنية) اليسارية الميول، وانتهت الحرب بوقف لإطلاق النار رعته الجامعة العربية بعد مقتل ما يقارب من ألف شخص من الطرفين، وعلى إثر ذلك عقد أول لقاء بين الرئيسين علي صالح وعبدالفتاح إسماعيل في الكويت برعاية أميرها الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح، انتهى بالتوقيع على إجراءات تنفيذية للتسريع بالوحدة اليمنية.
هدأت الأوضاع الداخلية في الشمال وتمكن بعدها صالح من تثبيت حكمه، وبدأ محاولات لتحسين الأداء الحكومي، مستعيناً بعدد من كبار الشخصيات المعروفة وطنياً والتي تمتلك قدرات فنية متميزة، وفي العام 1980 استبدل عبدالعزيز عبدالغني من رئاسة الحكومة (1975 – 1980) وعين الدكتور عبدالكريم الارياني محله (1980 -1983)، بعدها أعاد الأول إلى موقعه حتى 21 مايو (أيار) 1990 موعد قيام الوحدة اليمنية، وظلا أقرب الشخصيات السياسية إليه طيلة سنوات حكمه... وشهدت تلك المرحلة حادثة استثنائية وغير مسبوقة.
كان الراحل عبدالله الأصنج من أدهى السياسيين اليمنيين، ومقربا جدا من الرئيس الحمدي، ورغم كونه من أبناء جنوب اليمن إلا أن نفوذه القوي في الشمال تجاوز إطار حدود عمله كوزير للخارجية، وكان من بين أكثر الشخصيات اليمنية التي تتمتع بتقدير الحكومة السعودية، وحصيلة هذه العوامل زادت من عداواته مع النظام في الجنوب، وخلقت له خصومات كثيرة وحسداً من القوى التقليدية في الشمال التي كانت تظن أن العلاقات مع الرياض حكر عليها، ومساحة لا يجوز الاقتراب منها، لكن فجأة في شهر مارس 1981 جرى اعتقال الرجل وزير الخارجية السابق والمستشار السياسي لصالح، وتقديمه للمحاكمة، ولاشك أن الأمر حمل في طياته رسالة إلى المملكة العربية السعودية، في وقت توطدت علاقات صالح مع الرئيس الراحل صدام حسين، فتسببت الوشايات ضد الأصنج في إلصاق تهمة التخابر مع دولة أجنبية وحكم عليه بالسجن، إلى ان تم الافراج عنه بعد وساطات خارجية ومساعٍ داخلية.
(للحديث بقية)
نقلا عن إندنبندنت عربية
اقراء أيضاً
السلام الضائع
هل تعثر مسار إنهاء الحرب في اليمن؟
خواطر عن احتمالات السلام