وحدها، غزة، تعلمنا في زمن البلادة، وتبهرنا في زمن الرداءة، وتطهّرنا مما علق بنفوسنا من الضعف والعجز والمهانة.
غزة، مجدداً، تمارس دورها في إعادة الاعتبار لقيمة المقاومة، وإعادة تعريف معنى العدو، وإعادة صياغة العلاقة مع العدو، على الوجه الصحيح، علاقة مقاومة من أجل التحرير، لا معارضة من أجل التحسين.
محمود عباس هو الأكثر احتياجاً لتعلم هذا المفهوم من غزة، لتذكّر الرجل الذي يجلس على قمة كيانِ يسمى "منظمة التحرير الفلسطينية" أنه لا يليق به أن يتحدّث وكأنه ناشط معارض لنتنياهو في الكيان الصهيوني، لا كزعيم شعبٍ يسعى إلى التحرّر من المحتل.
وبما أن الوجود الصهيوني في فلسطين هو فعل اغتصاب وسرقة، فإن كل قوانين العالم، السياسية والحضارية، تؤكد على حق المحتل في المقاومة، بكل السبل والوسائل والأسلحة، من دون أن يكون مسموحاً لأحدٍ بالتطاول على قيمة المقاومة المسلحة لعدوانٍ فاجرٍ في تسلحه، أو إهانتها بوصفها بأنها "كلام فارغ"، كما انزلق عباس من قبل.
هل يوجد في التاريخ ما يشير إلى أن عدواً محتلاً غادر طواعية؟ اقرأوا التاريخ، واقرأوا مواثيق الأمم المتحدة، ونواميس الوجود، لتعرفوا أن مقاومة الاحتلال حق أساسي ومشروع.. اسألوا فرنسا عن مقاومتها المسلحة الاحتلال النازي، واسألوا التاريخ عن بلادٍ لم تترك سلاحاً إلا استخدمته في سبيلها لتحرير أراضيها.
من المهم هنا تذكّر أن إسرائيل ليست فقط دولة احتلال بالمفهوم التقليدي، وإنما هي، قبل ذلك وبعده، كيان استيطان، ذلك أن الاحتلال بالمفهوم التقليدي المعروف أن دولة قائمة ومتحققة بالفعل، تاريخيا وجغرافيا وحضاريا، ولها جذور ضاربة في عمق الزمن، تمارس التوسع والامتداد على حساب حدود دولةٍ أخرى، مجاورة أو بعيدة، فيصبح من حق الدولة الأخرى، حكوماً وشعباً، أن تقاوم هذا الاحتلال والعدوان على سيادتها بكل ما أوتيت من قوة.
وفي حالة إسرائيل، نحن بصدد عصابة من القراصنة، لا تاريخ لهم، كدولة، في أي مكان في العالم، يقودون مجموعةً من النهابين الطماعين، هجموا على بلدةٍ فقتلوا أهلها، واستولوا على أراضيها ومساكنها ووضعوا لافتةً عليها باسم جديد.
وليست مشكلة الفلسطينيين أن ضميرا عالميا فاسدا، ونذالة وعجزاً من أشقاء وجيران لأصحاب الأرض والحق، وحماية من قراصنة كبار، وعوامل أخرى، تجمعت وتواطأت وتحايلت على الحقيقة، وتلاعبت بجوهر الحكاية، وأذعنت لما يردّده المعتدون من أساطير وأكاذيب.
فليقرأ محمود عباس، وحلفاؤه الأوغاد، ما قاله محمود درويش عن غزة، وقيم غزة، قبل رحيله "لأن الق?م ف? غـزة تختلف.. تختلف.. تختلف، الق?مة الوحيدة للإنسان المحتل ه? مدى مقاومته للاحتلال.. هذه ه? المنافسة الوحيدة هناك".
تلك هي المسألة، وذلك هو الدرس المهم، الذي تلقنه غزة للجميع، وتربي الصغار والكبار على تمثل قيمه واعتناق جوهره "المقاومة ليست فقط خيارنا الاستراتيجي، وإنما هي حياتنا وهي روحنا" كما قال لي خالد مشعل يوماً.
وفي نثر أجمل من الشعر، يصف محمود درويش، قبل ثمان سنوات، عروس المقاومة هكذا:
"إن غـزة لا تباهى بأسلحتها وثور?تها وم?زان?تها. انها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها
وغزة لا تتقن الخطابة.. ل?س لغزة حنجرة.. مسام جلدها ه? الت? تتكلم عرقاً ودماً وحرائق.
من هنا ?كرهها العدو حتى القتل . و?خافها حتى الجريمة . و?سعى إلى إغراقها ف? البحر او ف? الصحراء او ف? الدم
من هنا ?حبها أقاربها وأصدقاؤها على استحياء ?صل إلى الغ?رة والخوف أح?اناً . لأن غزة ه? الدرس الوحشي والنموذج المشرق للاعداء والاصدقاء على السواء".
وأخيراً، من أراد المستقبل فليتعلم من حاضر غزة، ومن أراد الحرية فليقلب صفحات كتاب غزة.
أنصتوا لعذوبة صوت غزة، التي بلا حنجرة، وهي تغني للحياة.
*العربي الجديد
اقراء أيضاً
رمضان في غزّة اليتيمة
موعد مع الملثم
أشد العبارات: الدبلوماسية على طريقة بيومي فؤاد