مرت خمسة أشهر تقريبا، منذ توقيع اتفاق ستوكهولم بالسويد، في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2018، دون إحراز أي تقدم يذكر، وبشكل خاص على صعيد اتفاق الحديدة، الملف الوحيد الذي تم التوقيع عليه من الطرفين: الحكومة الشرعية وميليشيات الحوثي.
أخذت مشاورات ستوكهولم، التي انطلقت في السادس من ديسمبر العام الماضي، واستمرت أسبوعا، هالة كبيرة جدا، خصوصا من قبل الأمم المتحدة ومبعوثها إلى اليمن مارتن غريفيث، الذي اعتبرها منطلقا رئيسيا لعملية السلام في اليمن. مع أنها لم تخرج سوى بالاتفاق رسميا على ملف واحد هو ملف محافظة الحديدة، من بين ثلاثة ملفات تم مناقشتها، بعد فشل إدراج بقية الملفات الأخرى على طاولة الحوار، بينها الملف الاقتصادي.
إلى جوار اتفاقية الحديدة، ناقشت مشاورات ستوكهولم ملفي: تبادل الأسرى؛ وحصار محافظة تعز. وفي كليهما تم التوصل إلى تفاهمات أولية فقط، وليس اتفاقات موقعة، على أن يتم التفاهم حولهما لاحقا عبر لجان خاصة.
على الأرض، لم يتحرك ملف حصار تعز إطلاقا، بينما توقفت الحوارات الثنائية، برعاية الأمم المتحدة، بشأن ملف تبادل الأسرى في منتصف الطريق نتيجة استفحال الخلافات.
اتفاق الحديدة
بقي العمل على اتفاق الحديدة، المتفق عليه أصلا بتوقيع الطرفين في مشاورات ستوكهولم. ومع ذلك، فقد ظلت تراوح مكانها دون البدء حتى بالمرحلة الأولى منها، المتمثلة بإعادة انتشار القوات في المدينة. رغم أن مجلس الأمن أردفها بقرارين متتاليين، في أقل من شهر ونصف، لضمان تنفيذها: -
- القرار الأول رقم 2451 لسنة (2018)؛ صدر بالإجماع في 21 ديسمبر/ كانون أول 2018، وتم بموجبه تخويل الأمين العام للأمم المتحدة تشكيل فريق أممي طلائعي للتنسيق والاشراف على إعادة انتشار القوات في مدينة الحديدة.
- القرار الثاني رقم 2452 لسنة (2019)؛ صدر في 16 كانون الثاني/ يناير 2019، بتشكيل بعثة سياسية أممية قوامها 75 شخصا برئاسة رئيس لجنة التنسيق وإعادة الانتشار في الحديدة الجنرال الهولندي مارتن كمارت، الذي تم تعيينه في القرار برتبة أمين عام مساعد.. وفصّل القرار مهام البعثة وأعمالها..
لكن؛ وفقا للتزمين الوارد في اتفاق ستوكهولم، كان المفترض الانتهاء من ترتيبات تنفيذ اتفاق الحديدة في غضون نهاية شهر يناير/ كانون ثاني 2019، للانتقال بعدها إلى مناقشة "إطار" الاتفاق السياسي الشامل، أي البنود المطلوب التحاور حولها في طاولة المفاوضات السياسية، التي كان مقرر بدئها مع نهاية شهر يناير هذا العام.
لذلك، حين شعر الجنرال الهولندي مارتن كمارت، رئيس البعثة الأممية في الحديدة بقرب انتهاء الفترة المحددة له دون أي انجاز، تقدم باستقالته قبل نهاية شهر يناير بأسبوع تقريبا. وفي 31 يناير تم تعيين الجنرال الدنماركي مايكل أنكير لوليسغارد رئيسا للبعثة الأممية لإعادة الانتشار في الحديدة وتطبيق الاتفاق، نيابة عنه.
ومنذ ذلك الحين، ظل الفشل هو سيد الموقف في الحديدة، ولم يتم حتى البدء بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق، المتمثلة بعملية إعادة انتشار القوات إلى خارج المدينة. وفي كل مرة كان المعرقل الأبرز هم ميليشيات الحوثي الانقلابية، الذين بدلا من ذلك، استغلوا الفرصة لإعادة نشر قواتهم وتعزيز حضورها أكثر في المدينة، بعد أن كانوا قاب قوسين او أدنى من طرد قوات الشرعية لهم من المدينة، بمساعدة قوات التحالف، قبل أن يتم إيقاف العمليات العسكرية للدخول في مشاورات السويد في ديسمبر العام الماضي.
كان الجميع يدرك هذه النتيجة مقدما: كلما اقتربت هزيمة الحوثيين في معركة مفصلية هامة، يرفعون راية الحوار (الرمادية) للحصول على وقت مستقطع لتغيير المعادلة العسكرية على الأرض. وهو ما تم تحذير المبعوث الأممي الأخير إلى اليمن، غريفيث، منذ أعلنوا موافقتهم الدخول في مشاورات السويد الأخيرة، وبعد التوقيع على اتفاقية ستوكهولم، وعلى مدى فترة عمل مساعديه على أرض الحديدة.
لعبة المبعوث
لا يمكن تصور أن المبعوث الأممي لم يكن قد أدرك هذه اللعبة باكرا؛ ربما، تقريبا، مع بداية تلاعبهم بمعاني بنود اتفاقية الحديدة الموقعة، وتفسيرها لمصلحتهم؛ لكنه كان في كل مرة يمارس هو الأخر "لعبة التغاضي" معهم. وهي المهمة التي حقق فيها نجاحا كبيرا حتى الأن.
ويعتقد أنه بذلك كان يستخدم أحد الأساليب التي تعلمها جيدا للإبقاء على ثقة الطرف الأخر (المعرقل)، به، كي لا يفقد عملية التواصل معه بشكل كلي. وهو ما تحقق له، حيث كان يصل في كل مرة إلى وكر زعيم الميليشيا عبد الملك الحوثي مباشرة، متى ما أراد ذلك.
وحتى الأن، أمكن إحصاء، ما يقارب عشرة لقاءات أجراها المبعوث الأممي مع زعيم الحوثيين، في ظرف عام واحد فقط، تقريبا، وذلك منذ تعيينه في مهمته أواخر فبراير/ شباط 2018، حتى مطلع الشهر الجاري. وكان ملاحظا أن نصف عدد هذه اللقاءات (أي خمسة) أجريت فقط خلال الثلاثة الأشهر الأولى الماضية من هذا العام. أي عقب توقيع اتفاقية الحديدة. وفي كل مرة كان يخرج فيها بوعود جازمة منه بتنفيذ الاتفاق.
على أن الأكثر إثارة في لعبة المبعوث هذه، أنه كان يحصل على موافقات الحوثي لتنفيذ الاتفاق، قبيل أيام فقط من تقديمه إحاطة إلى مجلس الأمن الدولي..!!
وهو أمر لا يستبعد أن يكون متفق حوله سلفا، لمنح المبعوث إنجازا في مهمته، وفي الوقت نفسه يكون مبررا لإخراجه من حرج تحديد أسم الطرف المعرقل للاتفاق ضمن إحاطته لأعضاء مجلس الأمن؛ خصوصا وأن طرف الحكومة الشرعية يضغط في هذا الاتجاه بشكل متواصل.
التقدم نفسه يتكرر دائما
فقبيل إحاطته المقدمة في 19 فبراير/ شباط الماضي، كان الحوثيون ما يزالون غير مقتنعين بتنفيذ المرحلة الأولى من الاتفاق بحسب خطة رئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار مايكل لوليسغارد. وقبل يومين فقط من تقديمه إحاطته التقى غريفيث بعبد الملك الحوثي بصنعاء في 17 فبراير، ثم وفي نفس يوم تقديمه الإحاطة أعلن الحوثيون التزامهم بخطة إعادة الانتشار..
لذلك، منح المبعوث فرصة التباهي في إحاطته بإحراز تقدم: "لقد أحرزنا تقدما كبيرا، منذ أن تحدثت إليكم آخر مرة، في تنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها في أواخر العام الماضي في استوكهولم، وقد أكد لي الطرفان وللجنرال مايكل لوليسغارد موافقتهما على المرحلة الأولى من خطة إعادة انتشار في الحديدة".
وأضاف في موضع أخر من الإحاطة: "يمنحنا الاتفاق حول المرحلة الأولى من إعادة الانتشار في الحديدة، كما تم تأكيده اليوم، الفرصة للتطلع إلى ما بعد اتفاق ستوكهولم". وفي هذه الفقرة إشارة واضحة أن الموافقة تم تأكيدها يوم تقديم الإحاطة، كما أشرنا أعلاه.
[للاطلاع على نص إحاطة 19 فبراير كاملة.. أضغط هنا]
لكن بعد ذلك، لم يحدث شيء على الأرض. ثم وفي الشهر التالي كان مقررا أن يقدم المبعوث إحاطة في جلسة استثنائية لمجلس الأمن، قيل أنه سيطلع الأعضاء على أسباب عرقلة تنفيذ المرحلة الأولى، لكنه لم يقدم إحاطته دون أن يعلن السبب. وبدلا من ذلك أكتفى بإصدار بيان في 19 مارس، أكد فيه أن "هناك تقدم ملموس نحو الاتفاق على تنفيذ المرحلة الأولى من إعادة الانتشار طبقا لاتفاق الحُديدة. وسيتم عرض التفاصيل الفنية على الطرفين في لجنة تنسيق إعادة الانتشار للتصديق عليها".
وكالعادة، لم يحدث شيء يذكر بعد ذلك على أرض الواقع. ثم وفي هذا الشهر (أبريل) وجدنا الأمر نفسه يتكرر أيضا..!! حيث ظل الحوثيون يرفضون تنفيذ المرحلة الأولى من خطة لوليسغارد في إعادة انتشار القوات في الحديدة..
فقبل تقديمه إحاطته إلى المجلس الأسبوع الماضي (15 مارس)، التقى المبعوث في صنعاء- مع مساعده لوليسغارد- بزعيم الحوثيين في 8 أبريل.. وحصل منه على موافقة واضحة وبالتفصيل، كما ذكر في إحاطته، التي أكد فيها أيضا أن ذلك اللقاء "كان مهما فيما يتعلق بالإعلان الذي سمعناه للتو اليوم"، مضيفا: "لقد كنت سعيدًا لسماع ذلك وقد تم التأكيد عليه بشكل مباشر، أنا ممتن له على الموقف الذي يتخذه بشأن هذه القضية وغيرها". وهذا تأكيد على أنه لم يحصل على موافقة الحوثي إلا في اليوم نفسه لتقديمه هذه الإحاطة..!! وبنفس الطريقة السابقة..!!
وهو ما جعله أيضا يكرر تباهيه بتحقيق الإنجاز، الذي كان قد تباهى بمثله (تماما) في إحاطته السابقة قبل شهرين (في فبراير)..
وقال المبعوث في إحاطته الأخيرة، الأسبوع الماضي: "لقد كانت عملية طويلة وصعبة، كما نعلم جميعا. لكن يسعدني أن أعلن لك يا سيادة الرئيس أن كلا الطرفين قد قبلا الآن خطة إعادة الانتشار المفصلة للمرحلة الأولى التي أعدها الجنرال مايكل لوليسجارد وأنا ممتن لكلا الطرفين على انخراطهما الإيجابي الذي سمح لنا بالوصول إلى هذه النقطة. وسننتقل الآن بكل سرعة نحو حل المسائل العالقة المتعلقة بالمرحلة الثانية، وأيضا وضع قوات الأمن المحلية، والتي سنطرحها في الأيام القادمة".
بل من الملاحظ، أنه في نهاية الفقرة السابقة نفسها، نسف أي إنجاز تم تحقيقه بالفعل، بحديثه عن المسائل العالقة ووضع قوات الأمن المحلية. حيث وأن المشكلة الرئيسية التي يدور حولها الخلاف أصلا، هو تفسير: من هي قوات الأمن المحلية التي يفترض بها استلام مدينة الحديدة وموانئها الثلاثة بعد عملية إعادة الانتشار؟! وهذا يعني أن الخلاف ما يزال قائما، وأن ما قدمه المبعوث في إحاطته من تقدم ليس سوى لـ"ذر الرماد في عيون" أعضاء مجلس الأمن..!!
وتفيد معلومات مسربة، ما تزال غير مؤكدة رسميا حتى الأن، أن المبعوث الأممي، غريفيث، اقتنع بتفسيرات الحوثيين أن قوات الأمن المحلية هي القوات التابعة للحوثي، المتواجدة في الوقت الراهن بالحديدة، وليست تلك القوات التي كانت تدير المحافظة قبل الانقلاب، كما تطالب به الحكومة الشرعية..
وإذا صحت هذه المعلومة، فإن المبعوث الأممي سيقلب معادلة الطرف المعرقل 180 درجة، لتصبح الحكومة مستقبلا، وليس الحوثي.
وعلى هذا المنوال، يبدو أن الرجل، الذي عُلقت الآمال عليه، سيظل يراوح مكانه دون تحقيق أي تقدم على أرض الواقع، مكتفيا بما يحققه من اختراقات في إحاطاته الشهرية فقط..!! وفي اللقاءات التي يعقدها مع المبادرات المجتمعية الجانبية، وخصوصا "النسائية"، والتي يطلق عليها "المسار الثاني للسلام".
أخبار ذات صلة
الجمعة, 19 أبريل, 2019
الحديدة.. فرص السلام تتضاءل والحرب تلوح
الجمعة, 19 أبريل, 2019
"غريفيث" متفائلاً: الفشل في الحديدة خيار غير مطروح وسيتم الانسحاب خلال أسابيع
الاربعاء, 17 أبريل, 2019
خلال لقائه "غريفيث"..الرئيس هادي يؤكد على ضرورة تحديد الطرف المعرقل لاتفاق ستوكهولم