تفرض كرة القدم على ممارسها التحلي بروح أخلاقية عالية، تعبر عن سمو اللعبة وتجاوزها لميكانيكية الركل التي تتكفل بها الأقدام دون سواها، كما تستوجب على منظميها الإدارة والتنظيم والترفع عن سفاسف القضايا التي تصطنع الفرقة وتصادر عمق اللعبة ذات الشعبية الأولى في الكرة الأرضية.
هذا ما لم تأتِ به النسخة الثالثة والعشرون لدورة الخليج العربي ، وهي تظاهرة كروية دورية تتجاوز أبعاد كرة القدم المعهودة، فبالإضافة إلى الحماس المعهود والإثارة المتوفرة والمنافسة المستمرة والشغف الذي يتزايد من دورة إلى أخرى فهي أيضاً تجمع شعبي كبير يؤكد أواصر الأخوة الخليجية الواحدة ذات الترابط الجغرافي والسلالي منذ أول نسخة في مطلع سبعينيات القرن الماضي ، حين لبّى أمراء عدد من الدول رغبة مواطن سعودي ساورته الفكرة فترة كبيرة لتصبح واقعاً مشاهداً انطلق من أحلام البسطاء ولا يزال.
لا غبار فيما يتعلق بمنجزات العرس الكروي الخليجي الذي أثمر إلى جانب التعزيز المجتمعي والربط الثقافي بين شعوب الخليج منشآت كروية عملاقة ومنتخبات منافسة تلعب كرة القدم على مستوى جعلها تصل إلى المحافل العالمية ذات الصلة وفتح شهية بعض الدول إلى تنظيم بطولات عالمية جاعلاً منها قبلةً للعبة.
إلا إنه ومع مرور الوقت تلاشى شيئاً فشيئا، فعلى غير ما جرت عليه العادة في الدورات السابقة من استعداد مكثف ومواكبة إعلامية رفيعة فإن خليجي 23 افتقد لبريق دورات الخليج السابقة، ولم يحمل في ثناياه جوهر الخليج الحقيقي المتمثل في تعزيز اللحمة ورفع مستوى التلاحم الشعبي والدعوة إلى الاستمرار في مثل هكذا محافل شعبية موحدة، بل تلطخ بمحيطه السياسي الذي انقض على الحياة الخليجية فجأة ليصادر منها سكينتها التي عرفت بها عبر الزمن ومحوّراً مسارها إلى اختراع صراعات فوضوية في إطار مسارح مصلحية تتجاوز الجغرافيا الخليجية.
لست معنياً فيما أكتبه هنا عن الصورة الفنية للبطولة ولا عن الظهور الباهت لمنتخب عن الآخر لكنني أجدني كصحفي وكمتابع لمثل هذه المحافل ذات الرمزية التاريخية ملزم بضرورة التنويه إلى استغلال البطولة سياسياً وإن كان الأشقاء الكويتيون تلافوا مسألة إلغائها بعد إعلان دول عدم مشاركتها في حال استضافتها قطر، وبحسن نية وبهدف اللمّة انبرت الكويت كعادتها للاستضافة محاولة لملمة شتات البيت الخليجي رياضياً وإن كانت محاولتها السياسية كذلك مستمرة، لكن اللجنة المنظمة للبطولة لم تفلح في سن تشريعات ملزمة على مستوى التعاطي الإعلامي والتنظيمي حيث أقصيت قطر عن البطولة رغم حضورها الفعال ومشاركتها المستمرة منذ سبعة وأربعين عاما وغُيبت من طرف بعض القنوات ولم يتطرق إلى ذكر اسمها تحت مبرر الحالة السياسية المسيطرة ، وهنا يكمن خطر إفراغ البطولة من مضمونها حيث مسارها التقريب وهدفها أن لا تستمر حالة التصدع بين الأشقاء بل تحاول ردم الهوة وإخراج البيت الخليجي المثقل بالهموم من أتون الصراعات السياسية.
إن ما تابعته خلال مباراة البحرين وقطر من خروج عن المألوف من خلال المشادات الغير رياضية وسط الملعب ومن تصريحات واحتفالات غير منطقية خارجه تتعنت لطرف ضد طرف لم تكن لتعبر عن نبض الخليج الواحد ولم تؤكد حقيقة إقامة الدورة التي جاءت في ظروف خليجية استثنائية بل أكدت الشروخ القائمة وزادت الطين بلّة وأضافت إلى الفجوة السياسية فجوة رياضية وعززت من حالة التنافر القائمة والتي تؤكدها فعلياً عملية التراشق الإعلامية بين بلدان الأزمة الخليجية من أشهر.
ما كان من الواجب أن يُقام خليجي 23، وما كان على الكويت أن تنظمه في ظل المجريات الراهنة، فحالة الشذوذ الإعلامية السائدة جعلتنا أمام نبوءة الصراع المستقبلي الذي لا مفر منه بين شعوب تربطها أواصر حميمية على مستوى الدين والعرض والأرض ولكنها بفعل السياسة تنكرت لكل ذلك وارتهنت لمشاريع سياسية واقتصادية باهتة وغير واضحة لتبنِ عليها أسس الخلاف المتفاقم بينها.
هل كان المونديال الخليجي بحاجة لكل هذه الترهات ليفقد بريقه الشعبوي وحاضنته الجغرافية وتاريخه الممتد من خمسة قرون؟
هل كنا بحاجة لهذه الدورة التي افتقرت لأدنى المتطلبات الفنية وظهرت ظهوراُ باهتاً لا يقارن بأي دورة أخرى بسبب التدخلات السياسية؟
إلى متى سنظل معلّقين بقشة القرار السياسي الطاغي والمكرس للسيطرة على مفاصل الحياة ومشاعر الناس؟
هذه تساؤلات فرضها خليجي 23 لا ولم ولن تجد من يستجيب لها حتى يرمم البيت الخليجي برمته ويعود كما عهدناه (( خليجنا واحد)).
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل