في ظل الفقر ودوامة الحرب ودورات الصراع المتجددة في اليمن، وغياب أي أُفُق سياسي لحل شامل؛ بات "اليانصيب" الأمريكي فردوساً مفقوداً، ليس لمجموعة من الطامحين لتغيير أوضاعهم الاجتماعية والمعيشية وحسب، بل لشعب بأكمله.
بصورةٍ عامة؛ يبدو أن هاجس الغربة يلاحق كل يمني يحمل مسؤوليات اجتماعية، أو يكاد يدخل هذا المضمار؛ ولكن اليانصيب الأمريكي بصورةٍ خاصة يمثل طوق نجاة، وربما أعلى درجة في سلم الهجرات المتنوعة والمتعددة بتعدد الوجهات التي يلجأ إليها المهاجرين العرب.
لا غرابة أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل أقوى مراكز الجذب الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بما تمثله من نفوذ واسع وقيّم معيارية تكفل حق الإنسان في العيش الكريم وحرية التفكير والاعتناق والتعبير، وغيرها من الضرورات التي يحتاج إليها الفرد؛ ولكن أن يتحول هاجس الهجرة إليها من أغراض هجرة التنوير والتعليم والسياحة، إلى هاجس هجرة مدفوع بواقع الفقر والألم والحرمان، وأن تشترك جميع طبقات البلاد في السعي الحثيث والمتابعة الدائمة لمواعيد افتتاح "اليانصيب" والمسابقة فيها، على أمل العثور على مقعد في إحدى مدن هذه الدولة الأمريكية الشمالية؛ فهذا ضرب من ضروب الفشل واليأس والإحباط. اليأس حتى من تخلق نخبة أو حزب أو كيان قادر على قيادة زمام الأمور في البلاد، أو المساهمة في إنهاء هذا الواقع الأليم فيها على أقل تقدير..!
هذا اليأس والقنوط يتجلى في أبرز صوره من خلال تدافع شباب البلد بكافة مستوياتهم التفكيرية والاجتماعية والطبقية إلى شبابيك الهجرة ومنصات بيع تذاكر الغربة.
لم تكن البلاد في أحسن مستوياتها قبل اندلاع الحرب التي شنتها جماعة الحوثي على الدولة في آواخر العام 2014، ومع ذلك لم يكن يحظى برنامج الهجرة العشوائية "اليانصيب" على هذا الزخم، ولا حتى نصفه، تماماً كما هو الحال مع مساعي الهجرة إلى أوروبا. حيث كان بوسع المرء أن يسافر بيُسر للدراسة في تلك البلدان البعيدة، أو العمل والاستقرار، ولم يكن ذلك مدوياً لأن الشعب لم يكن قد فقد بعد ثقته في أن هناك مسار مؤدي إلى استقرار الأوضاع المعيشية في اليمن، وثقته أن هناك أحزاب وقيادات قادرة على دفع عملية التغيير، واستثمار الثورات الشعبية بالدفع بعجلة التنمية والتطوير، تلبيةً لأحلام وتطلعات الشارع، ما يشير إلى أن تصاعد أرقام المهاجرين، أو من يحلمون بالهجرة، ما هو إلا نتاج الإحباط والفشل والأداء السياسي المخزي للقوى السياسية في البلاد.
والحقيقة أننا لا نستطيع أن نشخص مكامن الخلل. فمن ناحية ليس هناك أدنى مجال للشك أن مسؤولية هذا الفشل تقع على عاتق قيادات الدولة وقيادات الأحزاب السياسية وقادة الرأي أيضاً. ومن الناحية الأخرى هناك الشعب والمجتمع؛ أليس الشعب جديراً بتحريك عجلة السلام في البلد، كجميع الشعوب الحيّة التي تملك خياراتها وتتحرك وفق ما تملي عليها المصلحة العامة؟
وعلى أهمية هذه الأسئلة، فإنك بمجرد أن تضعها أمام المجتمع، للاختبار العملي؛ ستجد أنك دخلت في دوامة من النقاش العدمي، الذي يشير إلى أن الجميع غير مستعد لأن يتجرد من جميع قناعاته المسبقة. غير مستعد حتى على التخلي عن تبريراته المغلفة والجاهزة لهذا الفشل الكارثي الذي تعيشه البلاد.
التهافت المتصاعد على موقع التقديم في "اليانصيب" الأمريكي، لا يشير سوى إلى حقيقة أنه ليس هناك نصيب للمواطن بالحياة والعمل والتكسب في مجتمعه الأصيل. وقد تكون الحروب قدراً مكتوباً على بعض الشعوب، ولكنه حتماً ليس القدر الأسوأ من عزوف المواطنين ويأسهم واستسلامهم لواقع يقامر فيه قادة البلاد وأطراف صراعها بمستقبل أبنائهم.
اقراء أيضاً
خطاب الوعظ.. وحساسية البعض
مروحية "رئيسي" المفقودة وسخرية العرب