مرّت أخيراً الذكرى الـ 41 لتأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام في اليمن مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، الحزب الذي وُلد من تحالفات عسكرية وسياسية وقبلية ودينية، وتفرّد بالحكم في اليمن في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، حتى غدا الحزب هو صالح وصالح هو الحزب. ثم تغيّرت المعادلة إثر أحداث الربيع اليمني مطلع عام 2011 وما تلتها من أحداث ولجت معها البلاد في حرب أهلية وتدخّل إقليمي عسكري، وتغيّرت خريطة القوى في اليمن، وصولاً إلى مقتل صالح على يد الخصوم الحلفاء (جماعة الحوثي)، نهاية عام 2017.
ما زالت الحياة السياسية في اليمن في طوْر التعثّر، وذلك لعلوّ صوت البنادق وتعمّق النزاع وفداحة الحرب على حياة اليمنيين وتضعضع دولتهم وانقسامها. وفي ذكرى تأسيس حزب المؤتمر الشعبي الذي أريد له أن يكون المظلّة الوطنية الجامعة للحياة الحزبية في شمال اليمن لمواجهة الحزب الاشتراكي بأيديولوجيته اليسارية في الشطر الجنوبي من اليمن، تظهر التفاعلات الرسمية والشعبية على وسائل التواصل الاجتماعي، أو منشورات الشخصيات السياسية هذه اللحظة بنوع من النوستالجيا إلى فردوس مفقود غير قابل للتكرار.
تعدّدت الآراء المستذكرة، ولعل أشهرها ما سطّره رئيس مجلس الشورى والقيادي في "المؤتمر الشعبي العام"، أحمد عبيد بن دغر، أو ما كتبه أحد مؤسّسي الحزب، الجنرال علي محسن الأحمر، والمنظور إليه دوماً بتقاربه مع حزب التجمّع اليمني للإصلاح وجماعة الحركة الإسلامية في اليمن. وقد بدت، من هذه الكتابات الصادرة في لحظة انقسام لحزب المؤتمر بين تيارات متشعّبة متعادية بين مناطق نفوذ الجماعات المسلحة في اليمن أو شتات النخب السياسية بين العواصم العربية والدولية، بدت الحاجة إلى استنهاض حزب المؤتمر الشعبي كياناً سياسياً جامعاً يُرتجى منه حشد الطاقات لمواجهة الجماعة الحوثية المنشبة مخالبها في محافظات شمال اليمن، وتغول الصوت الانفصالي في محافظات الجنوب. وقد تكون هذه مناسبة للنظر في المسار الحزبي في اليمن عامة، والإشارة إلى بعض ما اعتور هذا المسار.
انتهت التجربة السياسية قبل إعادة توحيد البلاد في شطري اليمن إلى خلاصة ثمينة: لا استقرار من دون تعدّدية ولا تطوير من دون ديمقراطية ولا تنمية من دون وحدة يمنية، غير أن ثلاثة عقود من الديمقراطية الهشّة والمراوغة في يمن الوحدة نسفت هذه العقلانية، وتحولت الأحزاب إلى كيانات مسلحة وذهبت النخب تبحث عن الديكتاتور المستنير. وفي استذكار لحظة ميلاد حزب المؤتمر الشعبي العام، ينبغي التفكير في فعالية الكيانات السياسية وفق تلك الخلاصات، أو وفق مفاهيمها للحظة الطائشة، فإذا لم تؤخذ من التاريخ العِبر فلا معنى للنظر والاحتفاء، وإذا لم يتشجع المتحزّبون على المراجعة والنقد والسعي لتجاور الأطر العائلية في تنظيم الحياة السياسية، فإنهم يكرّرون المكرر ويحتفون بالعلة.
في حقيقة الأمر، لا يختلف حزب المؤتمر عن غيره من التنظيمات السياسية اليمنية من حيث البناء والأداء. ترهّل هرمي وغياب الدمقرطة الداخلية وعدم التزام الاستحقاقات الداخلية الضامنة للبقاء، إلا أنه يتميز بأنه بلا نزوع أيديولوجي، وهذه ليست ميزة، إلا إذا نظرنا إلى استلاب الأحزاب الأخرى المؤدلجة، ولا سيما أن فقدان البعد الأيديولوجي ينتج منه افتقار إلى تصوّر واضح في أدبيات الحزب بشأن محاور العمل السياسي، كالتوجه الاقتصادي الضروري لإحداث التنمية والعدالة الاجتماعية لإيجاد الاتزان اللازم لتعافي المجتمع من أمراضه الاجتماعية وغيرها.
لم يختلف حزب المؤتمر، ذو القاعدة الشعبية الكبيرة والحاصد أغلبية كبيرة أو ساحقة في كل الدورات الانتخابية التي شهدها اليمن قبل ان تتوقّف منذ أكثر من عقد، عن الكيانات السياسية اليمنية الأخرى في العجز عن بناء إطار فكري نابع من البيئة اليمنية أو متكيّف معها معنيٍّ بإحداث تنمية شاملة واستهداف تصوّر استراتيجي خاص باليمن.
عملياً، استطاعت كل الأحزاب الاعتماد على الزبونية، وترجمت ولاءاتٍ قبل وطنية وجهوية في بنيتها الداخلية. كانت أحزاباً كبيرة الحجم من نسيج رخو، فلم تقُد تأصيلاً فكرياً، بل استمرّت تعجن وتخبز ما تستورده من أفكار وتصوّرات آنية غير مبيّأة، لذا كثيراً ما كانت تنزلق نحو تشدّق أيديولوجي أعمى أو سيولة فكرية. فضلاً عن ذلك، لم توفّر في مسيرتها العملية تنشئة سياسية تُعنى ببناء أطر حزبية جديدة خلّاقة، بل اتصلت بالأب المؤسّس، الذي بغيابه تتفرّق أيادي الأبناء.
ولكن العيب الأكبر في الحياة الحزبية اليمنية هو الموقف من الدولة، فالحزب الحاكم هو الدولة، ويعيد تشكيل الجيش والمؤسّسات الأمنية والاقتصادية للدولة لتكون تابعة له، وما إن يخرج من السلطة يذوي وتضمحل معه مكوّنات جهاز الدولة والمعارضة بطبيعة الحال، معارضة للدولة المتماهية مع الحزب الحاكم، عدم الفصل بين الجسمين، الحزبي والدولتي، دفع بالصراع إلى مرحلة تدميرية تقوض الدولة والحياة الحزبية معاً.
وعليه، إذا كانت الاحزاب السياسية اليمنية مهمومة باتصال العمل الحزبي والعودة إلى الديمقراطية، فهي معنية داخلياً بتأمين قنوات صعود وترقٍّ للأطر الحزبية لضمان ديمومة هذه الكيانات، والخروج من مأزق الأب المؤسّس، لأنّ تخشّب القيادة يقود إلى تخشّب الخطاب والوسائل والرؤى، ويؤول إلى انفصال وقطيعة مع الواقع الميداني.
في المناخ السائد في اليمن، يبدو الاحتفاء بذكرى تأسيس حزب سياسي من دون الانتقال إلى المراجعة والنقد قد يكون إصراراً على تكرار تجارب لم تقد إلى نجاح.
*نقلاً عن العربي الجديد
اقراء أيضاً
لا يسود بالدعاية فقط
حان الوقت أن تستمعوا للشعب!
كارتيل الموت في صنعاء يدافع عن المبيدات