يعرف ابن القيم الإخلاص يقوله: "أن يستوي لديك المدح والذم " وهي حالة من "الوجود الداخلي المحض".
يصير معها كل ما هو خارجي امتدادا لهذا الوجود الجوّاني المتعين وتجليا له على نحو يجعلنا في غنى عن تسول ذواتنا وحضورنا من العالم الخارجي بصفة عامة، أي لا يظل وجودنا مشروطا بالخارج باعتراف الآخرين وبطبيعة نظرتهم الينا، أو بما نملك من المال او السلطة او العلم أو الأشياء وما قد يعد من شروط الاعتراف والتقدير.
ومن هنا نفهم معنى الآية الكريمة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" حيث نرى الاحالة الأولية على الداخل في نشدان التغيير للواقع.
وهنا نقف ازاء مفهومي الظاهر والباطن اذ يبدو كفاحنا منصبا لإيجاد ذلك القدر من الاتساق بين ما نظهر وما نبطن، ما نخفيه وما نبديه بين ما نضمر وما نعلن، وذلك كي نصل الى حال من السوية والصدق المفصح عن نفسه بتلقائية وبدون تقصد، ذلك الصدق الحق والذي لا يحتاج لأية مؤكدات ولا لأن تسأل عنه، اذ "كل صدق يسأل عنه لا يعول عليه" بحسب ابن عربي وحين نخفق في ايجاد هذا التناغم والاتساق يحدث التشوش والاضطراب في رؤيتنا لذواتنا وللآخرين، تلك الحال التي نسقط معها ربما في التناقض والازدواجية والفصام والنفاق والانقسام وسوى ذلك من الأدواء والتشوهات.
أن نكون نحن، ولا شي أكثر، رهان الكبار، أن نعرف انفسنا قبل كل شي، تلك المعرفة التي تحدد ماهيتنا وهويتنا وملامحنا الدقيقة الخاصة وحضورنا الحقيقي المميز ، تلك المعرفة التي تشعرنا بالثقة والثبات ورسوخ القدر و تجاوز بنا ماهو سطحي وعابر وشكلي وزائف، او مبهرج وبعيد عن الجوهر، علينا أن نؤمن بأن ما نراه نحن فينا حقيقة هو الأهم، اذ في وسعنا أن نلون الصورة والتصور لدى الغير دون أن يعني ذلك ان ما يصلهم هو نحن بالفعل، من المهم الاشتغال على عقولنا وارواحنا مجاهدة ومغالبة وتهذيبا وتشذيبا وعناية وتعهدا وتربية وتزكية ونشدانا للسوية.
ولنكف عن القلق من رأي هذا ورؤية ذاك، لأننا نعرف من نحن الى ذلك الحد الكافي لانتفاء القلق. المهووسون بذواتهم وبصورتهم في عيون الآخرين، كثيرا ما يلحقون بشخصياتهم أفدح الأضرار بتقصدهم الظهور من خلال الاستعراضات الدعائية الفجة، والتعبيرات المفتعلة المكشوفة النافخة في الذات المسرفة في الادعاء والاختلاق.
هؤلاء يجعلون من أنفسهم أضحوكة، واهدافا دائمة للحش والزراية. ولكي نحضر، لا نحتاج لأية زوائد، أو مساحيق أو جهود مبالغ فيها، الكائن الحقيقي الصادق ترى جوهره النبيل وعظمته ببساطة، بدون جعجعة وتشدق وعروض هزلية جوفاء تشير الى فراغ العقل والروح والى عقد نقص عميقة لا تسترها الأكاذيب.
لا يحتاج المرء لأن يظل مسكونا بذاته متمحور حولها، لا ينفك عن الإشارة الى شخصه بفجاجة مشيدا بفضائله وانجازاته ومناقبه ومآثره ومفاخره. ببلاهة تضعه في دائرة المقت والإنكار.
ينجز الصدق تعابيره الواضحة، وتفصح الروح الصادقة عن جمالها الخاص بعفوية وتلقائية، وبدون بهارج او إحتشادات فاقعة.
الذات الحرة الغنية الممتلئة لا تستجدي الانتباه أو الاطراء ولا تشحذ الحضور. ولا تأسرها الشهرة الفقيرة، وهي تغيب لتحضر، واعية ومدركة أن من الحضور ما قد يكون عين الغياب ومن الغياب ما قد يكون عين الحضور.
ذلك المعنى الكبير الذي يحيل عليه الحديث الشريف " وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى ....."، كما يرويه معاذ في لحظات دامعة على قبر رسولنا الكريم.
هذه الحال من الحضور النوراني والذي يسقط معه الجسد وتجسدات الظهور المادي المحدود وينتفي الخفاء والغياب، حيث يتوهج القلب بنور الأبد.
كي يجدنا الآخرون ربما علينا تعلم كيف نضيع فيما نكتب ونقول ونفعل، لنحاذر اهواءنا ونزوعاتنا ومطامحنا الصغيرة المخسرة على طريق التحقق، "طائر الطبع يرى الحبة وعين العقل ترى الشرك ولكن عين الهوى عمياء" قالها ابن القيم في فوائده، مستدعيا حساسيتنا العالية ازاء الإنشدادات الغريزية التي قد تعمي عقولنا وتدفع بنا للخسران واللهاث خلف السفاسف ومراكمة الزيف والخواء والسخريات والعدم.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
لا مشروعية تتأسس على الخرافة والموت!
غزة الاستثناء المقلق
القراءة كالتنفس وأن تقرأ أقل (البرتو مانغويل، وهنري ميلر)