البرتو مانغويل، الكاتب الأرجنتيني الشهير، من آخر عشاق الكتب وسدنة المكتبات في العالم، أخذ الجنسية الكندية، ويقيم في فرنسا. من روائع ما كتبه: "المكتبة في الليل" عن تاريخ المكتبات، حكاية مغوية عن خمسين سنة من رفقة الكتاب والولع بالقراءة.
وله "تاريخ القراء"- ترجمة سامي شمعون، و"يوميات القراءة"- ترجمة عباس المفرجي- تأملات قارئ شغوف في عالم من القراءة، ومن كتبه أيضا: "فضول"، و"كل البشر كاذبون"..
يرى مانغويل أن القراءة ضرورية للحياة كـ "التنفس". خلال رحلته لازم الكاتب الأرجنتيني الشهير "خورخي بورخيس" (1899 – 1986) بعد فقدانه البصر، وقرأ له عامين، وكتب عن تلك الفترة الغنية كتابه "مع بورخيس"- ترجمة أحمد م أحمد.
الشغف بالقراءة عدوى محيط من المحبة والتواصي. ولطالما أحببت تلك الكتب الخاصة التي تحكي عن الكتاب، والعلاقة بالكلمة، وبدايات التأثر والإنشداد..
"الكتب في حياتي" ترجمة الرائع أسامة منزلجي، من أروع ما كتب هنري ميلر؛ يتحدث فيه عن مائة كتاب كان لهم تأثيرات حاسمة في تكونه وتشكله. وهو سيرة مدهشة ودافئة يعود الى عوالم الطفل الذي كانه، ويتحدث عن المدرسة راسما صورا ساخرة لمدرسين ثقلاء متجهمين لم يتركوا ما يحمدهم عليه.
وفي موازاتهم؛ توقف بكثير من الحب والامتنان أمام اساتذة رائعين جعلوه يحب العلم والمعرفة، ووسعوا من مداركه وزكوا عشقه للقراءة. ثم يشرع في عرض مثير للكتب والكتاب الذين قادوه خلفهم عبر دروب من الافتتان والدهشة. والكتاب مهدى الى "كلارك بأول" أمين عام مكتبة جامعة كاليفورنيا- لوس انجلوس.
ويعد ميلر هذا الكتاب من أهم ثلاثة، أو أربعة من كتبه، ويعتبره "تجربة حيوية وإحدى نتائج تفحص الذات"، وخلاصته "الإيمان بأن على المرء أن يقرأ اقل فأقل، وليس أكثر فأكثر". ويقول: "أنا لم أقرأ بقدر ما يقرأ المثقف.. لست دودة الكتب، أو حتى صاحب الثقافة الجيدة؛ لكني قرأت دون شك مائة كتاب، أكثر مما كان ينبغي أن أقرأ"..
ويرى "أن هناك قرّاء كثر؛ لكن ليس هناك من يعيش بحكمة وامتلاء". ولذا يسأل: "كيف يمكن تخفيض الفائض من العلف الرخيص؟"، مضيفا "إن كان المرء يسعى للمعرفة أو للحكمة، فيتحتم عليه التوجه الى المنبع". والمنبع هنا "ليس المثقف أو الفيلسوف أو الأستاذ أو القديس؛ لكنها الحياة المباشرة"..
وهو يعد لقاءاته بالكتب جزءا من تجربته الحياتية، وهو لا يجلها بحد ذاتها. وفي علاقته بالقراءة كان أشبه "برجل يشق طريقه في الأدغال بصعوبة"، وقد تعلم من الادغال بعض أشياء؛ لكن "لم يكن هدفه العيش فيها بل التخلص منها". وبالنسبة له يكفي "أن تكون الحياة دغلا حقيقيا ومعلما.. لكن اليس الكتب تساعدنا وترشدنا في شق طريقنا الصعبة في البرية؟" يسأل، ويورد لنابليون قوله: "لن يذهب بعيدا من يعرف مسبقا الى أين يذهب".
في هذا الكتاب نجد "هنري ميلر" بأكثر مما نجده في ثلاثيته التي كتبها في فرنسا: مدار الجدي، ومدار السرطان، والصليب الوردي. يبدو ميلر فيه مختلفا على مستوى الروح والأسلوب. ربما لأن طبيعة الكتاب مختلفة، وربما لأن ميلر كتبه في نهايات مسيرته الكتابية مع روايته البديعة "شيطان في الجنة".
وتظل القراءة طقسا خاصا، وتستدعي حالات من الحضور العقلي والنفسي الخالص.. بواعث شتى تتضافر كالرغبة، الاهتمام، الشغف، الانتباه، الفضول، التركيز، الاستمتاع، الدهشة، والتطلع للجديد.
لكي تقرأ يجب أن تكون حاضرا بكلك، قابلا للتلقي ومهيئا للاستيعاب والانفعال والتفاعل. وحين لا تكون في حال تسمح بإنجاز هذه العلاقة الحميمية، وهذا الارتباط الوثيق؛ تفتح الكتاب وكلك مقفل، وتشرع في القراءة وأنت غائب، موزع، مشتت العقل والروح، يدهمك إحساس مقبض، وربما شعور حاد بالضيق والتبلد، لأن القراءة تجافي الثقل والقسر، ولأنها رفقة حب لا تقبل الإكراهات، ولا المخاتلة ولا الادعاء والبحلقة الفارغة.
اقراء أيضاً
لا مشروعية تتأسس على الخرافة والموت!
غزة الاستثناء المقلق
حين يكون الحضور عين الغياب