أيوب طارش وعبد الله عبد الوهاب نعمان، رفيقا فن وإبداع وألق. ثنائيان تقاسما الولع منذ البدايات، وتكاملا في رحلتهما المديدة المشتركة، لينجزا الكثير من الروائع الباقية.
كانت علاقة الأستاذ والتلميذ، الفضول شخصية شهيرة مكرسة، يكبر أيوب عمرا وتجربة وثقافة وابداعا وحضورا. وما كان ليلتفت الى أيوب لو لم يجده فنانا موهوبا وواعدا بالكثير.
سيرة الفضول، ومساره وشعره وأدبه، حكاية عن معاييره المرتفعة وصعوبة ارضائه، سيما حين يتعلق الأمر بالفن.. وما كان ليرتبط بأيوب ويقرن اسمه به لو لم يراهن على حساسيته العالية وامكاناته وقدراته المواتية؛ أدرك الفضول أن لدى أيوب ما يستحق العناء، ووجد أنه يحاكي روحه، وأنَ بوسعهما أن يقدما معا تجربة غنية ورائدة، وبالتأكيد بذل جهدا في صقله وتوجيهه ودفعه للنضج والتطور والارتقاء والتفرد..
وظل حريصا على أن يبقيه في المستوى اللائق مادام قد اقترن به، ولم يزل يتابعه وينبهه الى أهمية الحفاظ على المعيارية في اختياراته. ولا أعتقد أن ذلك بدواعي أنانية أو احتكارية وبشهادة أيوب نفسه.. قصيدة جحاف مثلا اعجبت الفضول وعدل فيها ونسج على منوالها بما يدل على اعجابه بها.
لقد ظل الفضول يرعى أيوب فنيا ويعمل على ابقائه في مكانته ومستواه المطلوب، ولم يتردد عن التعامل معه بحدة فيما يتعلق باختياراته الفنية..
خلال أحاديث أيوب؛ يعبر بصراحة عن الحضور الطاغي لنعمان، الى حد انكاره عليه "اللفلفة". أتذكر جيدا قول أيوب في أحد الحوارات المتلفزة أنه غنى أغنية لشاعر مغمور، في مقيل خاص ببعض نخبة تعز حينها، وكان نعمان حاضرا ولم ترقه الكلمات فقال لأيوب: "بطل تلفلف"، تعبيرا عن عدم رضاه عن الأغنية. (ألا يحيل الدكتور قائد غيلان على هذا البعد في نقده؟)..
ويبدو أن أيوب وعى باكرا أهمية الانفتاح على شعراء أخرين، ولم يكن الفضول يمانع في ذلك، لكنه كان يتشدد في القيمة الفنية. ويروي أيوب أنه حين عثر على رائعة "علي عبد الرحمن جحاف" التهامية: "واطائر امغرب ذي وجه سن امتهايم"، وتواصل معه مستأذنا أن يغنيها، يذكر أيوب أن نعمان حين سمعها اندهش لها وعدل في مقطع منها ثم كتب له باللهجة التهامية: "قولوا لأهل أم عذل وأم ملامه
لمه لمه ملامكم علامه"..
بالطبع هذه الرفقة مع نعمان خدمت أيوب كما خدمت نعمان. فقد كان أيوب بحق- كما وصفه الدكتور الناقد غيلان: "فنانا شعبيا بسيطا وربما محدود الثقافة"، واحتاج مرجعا ملهما كبيرا على مستوى الشعر والموسيقى. وقد كان لـ "نعمان" اسهاماته التلحينية لكثير مما غناه أيوب له، وقد استمر يرفد تجربته ويغذي حساسيته ويمده بالمادة الفنية اللازمة لتسجيل هذا الحضور الزاخر. ويقيني أن أناشيد الفضول الوطنية شكلت إضافات فارقة له ولأيوب في مسارهما الفني المشترك الغني بالروائع الباقية.
الناقد الدكتور قائد غيلان، في منشوره المثير للغط، أشار الى هذا، ولكن دون التقاط صورة كلية لتلك العلاقة الإبداعية المتبادلة والمثمرة من الطرفين.
في كتابه "رحلة في الشعر اليمني" أتذكر كلاما للبردوني حول الشعر الشعبي؛ يرى فيه أن الصورة لدى الشاعر الشعبي لابد وأن تكون بسيطة، ليس فيها إغماض بحيث تصل الى الجمهور العام. لكن في تجربة الفضول وأيوب ما يفصح عن فرادة خاصة..
فالفضول شاعر متمكن من الفصيح والعامي، ويكاد يكون قادما من قلب الشعر الفصيح على نحو أخص، وفي قصائده الغنائية العامية نلمس ذلك بصورة واضحة على مستوى الصورة الشعرية، والتي تبدو فنيا أقرب الى الغموض، على غير ما يذكر الراحل الكبير البردوني، لكنها تظل قريبة من الناس، تلامس ارواح الجميع، وفي وسع الأمي البسيط أن يفهمها وينفعل بها ويتفاعل معها ويشعر بنوع من السمو والجذل، وتلك ميزة الشاعر المبدع، والذي يدرك أن مهمته الرقي بذائقة الجمهور والارتفاع بهم، لا أن يهبط اليهم ملبيا أميتهم ورغباتهم ولو على حساب الفن، وعلى ذلك النحو الذي يفقد فيه الفن شرطه ويغدو مجرد كلام عادي باهت..
صغارا استمعنا لأيوب يغني لنعمان: "أذكرك والليالي غامضات النجوم".. وهي صورة آتية من أفق الفصيح، وفيها إغماض، لكن العامل البسيط يفهمها ويصغي لها بكل جوارحه ويشعر بها ويعيشها شجنا ولوعة وحنينا ويرنو الى الحبيب النائي، ذكرى غامضة في ليالي البعاد تذكي أوار الشوق واللهفة.
خذ هذه كذلك:
"سوف تلقاني على خضر الربى
في المراعي حيث أيام الصبا
حيثما حبي وحبك قد ربى
حيث القاها وتلقاني الضبا"
صور ساحرة وآسرة، لا أحد يجد صعوبة في فهمها والإحساس بها وإدراك جمالياتها وسحرها العذب. ما كان لأيوب أن يغني تلك الروائع المبهرة إن لم يكن في مستواها احساسا ووعيا وقدرة على ملامسة الروح والتقاط الأسرار الحميمية الدافئة.
يحضر أيوب بكله في أغانيه الوطنية؛ سواء تلك التي كتبها الفضول أو سواه. وهو ما يشهد بسعة أفق أيوب وقدرته على التعامل مع شعراء آخرين، وأنَ علاقته بالفضول ابداعية محضة، ولا تعني تبعية قاهرة مكبلة للروح والإبداع.
ما الذي أغضب جمهور فناننا أيوب فيما كتبه الدكتور غيلان؟ وهل أساء إليه فعلا كي يستحق تلك الهجمة المرعبة؟
إن اعادة قراءة منشور الناقد د. غيلان بعقل ومنطق وبتجرد وموضوعية وهدوء، بعيدا عن الجلبة المفتعلة والتأويلات المتعسفة، ربما تفضي بنا الى موقف أكثر رزانة وحصافة وإنصافا للرجل، ولـ "أيوب"، وللمعنى والقيمة.
ولأول مرة أجد الأستاذ خالد الرويشان يكتب بتوتر وحنق زائد، تجاوز عقلانيته المعهودة ومنطقه الرزين. وحتى لو اختلف مع الكاتب (د. غيلان) حول ما طرحه، فلا شيء يبرر تلك اللغة الاتهامية التأليبية العنيفة، وتقوّيله ما لم يقله.
د. غيلان انتقد النص في أغنية الوحدة الأخيرة، ولم ينتقد الوحدة أو يعبر عن موقف ضدي منها. والكلمات صراحة ليست في مستوى الوحدة ولا أيوب ولا تاريخه الحافل بالدهشة.
فما هي جناية غيلان بالضبط؟ وما الذي يبرر ردود الفعل الشرسة ضده؟
أيوب منا آل الحوش.. لا يغاله نقد غيلان مهما كان، هو منا ونحن منه، ومحاولة تصنيمه هي الإساءة الحقة. نحن نحبه مادام قريبا إلينا، وفي وسعنا أن نتحدث معه وعنه بدون رُهاب أو إرهاب.
مشكلة غيلان أنه كتب بنزق، ولم يتردد عن إطلاق أحكام تعميمية تنسحب على إنتاج أيوب كله، وفي هذا مغالاة وشطط ومجافاة للحقيقة والمنطق والصدق والموضوعية.
لا يعيب أيوب أن يكون ذلك "القروي البسيط"، فكلنا قرويون بسطاء ننتمي لكل ما غناه فناننا الأحب، وليس مطلوبا منه أن يكون صاحب ثقافة أدبية عالية، وحسبه أن يكون صاحب ذلك الحس الفني الخلاق، الذي أبدع تلك الروائع المنذورة للخلود.
ثمة فنانون كثر أغنوا الحياة بإنجازاتهم المبهرة، وهم أقل الناس تنطعا وتشدقا، ومنهم من لا يحسن الحديث، والاستعراضات البهلوانية، ويبدون أكثر بساطة مما نتوقع في أحاديثهم العامة، لكنهم لا يبارون اطلاقا فيما يحسنون ويجيدون.
أهيم بأغان كثيرة لأيوب. أتنسم فيها رائحة تراب القرى، وشجن الجبال والوهاد، وأرحل معها عميقا داخل الروح، حيث تسكن كل الأشياء الحبيبة والجميلة، ومعها أيوب طارش بجلالة فنه وقدره.
اقراء أيضاً
لا مشروعية تتأسس على الخرافة والموت!
غزة الاستثناء المقلق
حين يكون الحضور عين الغياب