تتسارع التحضيرات لتوقيع هدنة في اليمن لمدة ستة شهور يشرف عليها السعوديون. وتقابل هذه الجهود بإرباك شديد في صفوف اليمنيين سواء في الشرعية او الحوثيون. ليس الارباك فقط سيد الموقف.
لكنه هناك عدم رضى من إيقاف الحرب على هذا النحو. فلا الحكومة توصلت الى استعادة الدولة وكسرت شوكة الحوثي، ولا الحوثي وفى بوعده وسيطر على كامل البلاد وتمسك بالسيادة واستقل بقراره عن السعودية التي كان يراها معتدية وحشد الالف من اليمنيين الذين ذهبوا صرعى حربه ودعايته. كما لم ينل الجنوبيون الانفصاليون دولتهم الناجزة.
حصيلة مرة وأن كانت العناوين البارزة لتفاعل الناس بين احتفال بنصر لم يتم او هزيمة لم تكتب. تشفى وقح وغضب أغرق. الحصيلة الملموسة هي تدمير لاقتصاد البلاد وكنس مكتسبات ممارسات دولتية إدارياً ومؤسسياً ووجدانياً منذ سبعين عاماً في ضربة واحدة.
لذا لا بد من السلام ويجب علينا جميعاً أن ندعو إلى السلام. أي سلام؟
اختصار: "سلام يحقق عدالة انتقالية ويكلل جهود اليمنيين ونضالاتهم في انهاء المركزية واحتكار السلطة والثروة ويعزز المشاركة في صنع القرار ويمكن الناس من مقدراتهم ويسهم في بناء دولة قانون لكل اليمنيين".
وأمام هذا الارباك أود او أقول قولي في عشر نقاط كوني معنياً بما يدور. اكتبت هذه النقاط مع ادراكي إني لا أعلم يقيناً بما يدور في كواليس التفاوض ولا ما يدور في ذهن الشرعية مع أسفي أنها لا تخرج للعلن وتحافظ على تماسك الناس من انهيار غير مبرر تحت وقع الدعاية والتكهنات.
اولاً: ليس في تقارب الحوثي والسعودية نصراً لأحد بقدر ما هو مكسب للسعودية التي تحولت في عيون الجميع من دولة شريكة في تحالف عسكري إلى دولة راعية لاتفاق سلم في اليمن. بل أن هذا التقارب هو اساءة لكل لدماء من قتِلوا او جرِحوا او بترت أطرافهم وهم يقاتلون في صفوف الحوثي. ثم يخونهم دفعة وواحدة يرفض التفاهم مع ابناء جلدته اليمنيين الذي سيعيش بينهم غدا، ولكن بدا يتملق السعودية.
ثانياً: ليست هذه اول مرة، بل الحق أن السعودية منذ اليوم الأول سعت إلى مد جسور التواصل مع الطرف المقابل سواء صالح أو الحوثي بدا من لقاءات ظهران الجنوب، لكن ولأن الحوثي لم يكن يملك قراره فلم تسفر تلك التواصلات عن شيء إلا بعد تقارب السعودية مع إيران. وبهذا خسر الحوثي موقفه المستقل واظهر تبعيته لإيران إذا لم نقل انه حصد مراً فعلته بان ربط مصيره إلى ساق إيران.
ثالثاً: نحن بصدد هدنة مستحقة إنسانيا يجب انجاها. لكن يجب ان تتحقق هدنة عادلة لتكون محور رئيس في بناء الثقة وتمهد لعملية سلام. وأقل ما يجب من عدل في هذه الهدنة هو الالتزام بشروط الهدنة السابقة خصوصاً فتح طرقات تعز والإفراج عن كافة المعتقلين والأسرى والكشف عن مصير المخفيين على رأسهم محمد قحطان.
رابعاً: لا يمكن أن يحل السلام بجرة قلم. لان الحرب فرضت واقعا أكثر تعقيدا وأكبر من النوايا الحسنة. وهنا ينبغي التذكير بان الاخوة في الخليج يجيدون لم شمل الفرقاء والتوقيع على اتفاقات لكنهم لا يوفرون لها الموارد الكافية الفنية واللوجستية لتنجح كما هو الحال في المبادرة الخليجية او اتفاق الرياض الأول والثاني.
وهذا لتفاوت الثقافة العامة في التناول مع الشأن العام بين اليمنيين والخليجيين، رست الدولة في الخليج وصارت الامور تسير رأسياً نحو الأسفل بسلاسة بينما هذا لم يحدث في اليمن. لذا يجب البحث في تفاصيل التفاصيل واخذ وقت كافي لبناء وهندسة السلام ووضع جداول زمنية وتوسيع خيال المتفاوضين ليتجبنوا الوقوع في اختزالات وعدم التنبؤ لمخاتلات وطرق التملص من الالتزامات.
خامساً: مما فرضته الحرب هو انها عملت على إعادة توزيع السكان في البلاد وتوسعت مدن وظهرت أخرى لم تكن سوى قرية. كما ان المحافظات اخذت تنافس الحكومة في الشؤون الإدارية وإدارة الموارد لذا تشكل واقع فيدرالي أعاد توزيع الثروة وانتعشت مناطق كانت خبوتاً. كان لدينا عاصمة واحدة الآن كل مدن اليمن عواصم. هذه المكتسبات - التي تبدو أثاراً جانبية حميدة للحرب - يجب البناء عليها وتأسيس فيدرالية لا ينبغي التفريط فيها لتكن مدخلاً أولياً لمعاجلة مشاكل البلاد المزمنة.
أي اتفاق سلام يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بهذه النقطة. ينبغي الحفاظ على التنمية التي تحدث في مناطق الشرق، ينبغي تعزيز وضع مدن كمأرب والمخا وعتق ولحج لتكن تجمعات حضرية حقيقية. لا ينبغي لمناطق مثل شبوة او حضرموت او مأرب أن تتنازل عن الحصة السارية في توزيع موارد الثروات الطبيعية.
سادساً: إذا انتهت الهدنة بتسليم رواتب الموظفين وتوحيد العملة في مناطق اليمن فهذا اكبر مكسب للشرعية لأنها بهذا العمل وصلت إلى 15 مليون مواطني يمني كانوا رهائن الحوثي. وعليها أن تعزز من هذه المكاسب دون التفريط بإدارتها للبنك المركزي. عودة البنك المركزي الى صنعاء ضربة مقتل في جسد وروح الشرعية، ولتكن هناك إدارة مشتركة للبنك في بلد ثالث في هذه المرحلة.
أي اتقاف يجب الا يقود إلى التراجع عن المشاريع الجارية على صعيد الطاقة، والاتصالات، والانترنت، والتعليم. بل يجب بناء نماذج إدارية متعددة تحت سقف الجمهورية اليمنية.
سابعاً: على الشرعية ان تعزز من صلاتها بالمواطنين في مناطق الحوثي وتدافع عنهم. عليها أن تضع شروطاً صارمة تمس المواطنين هناك لأي تقارب مع الحوثي. غاية هذه الشروط تحفيف معاناة المواطنين: التوقف عن العمل بإجراءات الزكاة الحوثية، وقف العمل بالنهج العنصري؛ قانون الخمس، التوقف عن أي إجراءات مصادرة لأراضي المواطنين عبر الوقف، الافراج عن سجناء حجور والشغور وأصاب، وهمدان وحجة.
ثامناً: يبدو اليوم أشبه بالبارحة وكأن التقارب السعودي الإيراني هو كالتقارب السعودي المصري في ستينيات القرن الماضي. لكن الواقع اليوم مختلف، البيئة السياسية مختلفة، حدثت لا مركزية غير مقصودة، انتعشت مدن كانت بحكم الموات، ذاق اليمنيون طعم التعددية، سعودية اليوم اقتصادية وليست أيدولوجية دينية وستكون غدا الانموذج المحتذى في التحول الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة, وقبل هذا، سيركع الحوثي للسعودية لأنه بلا سند إيراني قد راهن كل المراهنة عليه.
وأهم من هذا ان الحوثي أحوج إلى السلام والهدنة من الآخرين وإن كان يجيد تصوير عكس ذلك؛ بدأ الحوثي حربه ليحكم اليمن فاذا به يسيطر على أقل مما كان عليه اليمن الشمالي، شن هجوماً على مأرب لغرض الاستيلاء على النفط فعجز وخسر نخبته القتالية، دخل في هدنة فانفجرت الأوضاع الداخلية في وجه وبان طغيانه، وسنده الإقليمي في أضعف مراحله.
تاسعاً: الشرعية اليوم افضل مما كانت عليه عام 2019: اقتتالها البيني تلاشى، لديها موارد من غير النفط، استنهضت الجهاز الإداري نسبياً، تتقدم سياسياً نحو وئام وتقريب حلول مع الانتقالي، تراجع الانتقالي عن رعونته المفرطة، تقلص الشر الإرهابي في مناطق الجنوب، اتضح عجز تفكيك الدولة في المناطق الشرقية، بدأت عدن تعمل كعاصمة مؤقته وتتحول الى مقر استقبال المنظمات الدولية والدبلوماسيات.
لا ينبغي التفريط بهذه المكتسبات. بل يجب الذهاب الى هدنه وتمديدها عند سقف لا يقود الى انهيار الشرعية، انهيار الشرعية لا يعني انتصار الحوثي، بل غرق البلاد في جحيم اكبر.
عاشراً: أي سلام لا يعالج المشكلة العسكرية والأمنية هو محض وهم، وهذه نقطة يجب ان تقال دون مواربة او خجل، دون معالجة موضوع الأسلحة والتوزيع العسكري الأمني لا معنى لا اتفاق. اما تجميد للحرب لمدة ثلاثة أعوام حتى تتم هيكلة الجيش والأمن في اطار الشرعية او إيقاف الهيكلة في هذه المرحلة حتى الحصول على معالجة سياسية لمشكلة السلاح في البلاد.
كلمة أخير بخصوص السعودية: تبذل المملكة العربية السعودية جهوداً كبيرة لإنهاء الحرب في اليمن، من باب الدقة، إنهاء حربها في اليمن. وتساعدها في ذلك الجارة الوسيطة في المشاكل الإقليمية والدولية الشائكة سلطنة عُمان.
من حق السعودية ان تنسحب من المستنقع اليمني. هو مستنقع أكبر منها وتعقيداته تتجاوز قدرة المتدخلين الإقليميين عليه. والمشكلة اليمنية يمنية وتخص اليمنيين. مواجهة عنصرية الحوثي ونزعته الإمامية وتشظي القوى اليمنية في مشاريع صغيرة والنيل من الهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي هذه مشاكل لا يقدر عليها الا اليمنيين إذا أرادوا البحث عن حلول لمشاكلهم. وبناء دولة في اليمن ليس من مهام لا السعودية ولا إيران ولا أمريكا.
هذه الحقائق الناصعة لا تعني اننا نعيش في عالم معزول ليس فيه أحلاف ولا محاور لا تأثير وتأثير متبادل إنما هناك سلالم ومستويات لكل أولوية.
لسنا بصدد تقييم دور التحالف. لكن من المعقول الا تستمر السعودية في الانخراط في حرب اليمن بعد أن فقدت رفيقاتها في المعركة، انسحبت قطر ثم الأردن والمغرب واكتفت مصر بالتلويح بالمساندة. في الحصيلة، لم يعد التحالف إلا السعودية والإمارات، وسبق للإمارات عام 2019 ان أعلنت خروجها العسكري من اليمن. فكم سيكون جهد السعودية.
عمليا كان يمكن بعد ثمان سنوات من الاستضافة والتمويل والتموين والمشاركة عسكريا ان تكون الشرعية قد انتقلت من طور الشريد الى طور الممسك بالأرض والمتحكم بأجهزة دولة والمسيّر لاقتصاد غير مترنح وتكون على استعداد لان تقول للمملكة: شكر الله لكم وقفتكم الأخوية!
لكن ليس كل ما يشتهي الفرد يلقاه.
الآن تحديدا من غير المقبول أي لوم او تأنيب او حنق من طرف الشرعية على المملكة، فقط على الشرعية أن تقدم خارطة طريق لخروج المملكة وتصوغ فيها التزامات التحالف الأخلاقية والقانونية والاقتصادية تجاه اليمن في المرحلة القادمة والتفكير بمعالجة تبعات الحرب والاستعداد لعقد مؤتمر لإعادة الإعمار.
والعاقل الذي ينظر الى ما يحدث في السعودية ومشاريعها العملاقة لا يمكنه الا ان يبارك لها نجاحاتها ويأخذ بيدها الى انهاء الحرب حتى لا تتعطل مصالحها وتكون اليمن هي حجر التعثر. لا يفرط الشرعيون في الحنق ولوم السعودية لآن الحوثي سيسبقهم الى كسب ودها والتذلل لها بحكم حاجته المادية وشرهه وتهافته على المال.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك
اقراء أيضاً
لا يسود بالدعاية فقط
حان الوقت أن تستمعوا للشعب!
كارتيل الموت في صنعاء يدافع عن المبيدات