في جنوب افريقيا بدأ حزب المؤتمر الافريقي النضال ضد حكومة التمييز العنصري، وحين شعر قادة المؤتمر الوطني بانسداد افق النضال السلمي انشأوا ذراعا عسكريا اسندوا تأسيسه وقيادته لـ "نيلسون مانديلا"، وبدأوا مرحلة من الكفاح المسلح، ولكن سرعان ما انكشفوا نتيجة اخطاء عملياتية، وكذا بسبب عنف الدولة في المواجهة..
لقد هوجموا بضراوة، وتم اجهاض حركتهم واعتقال أبرز القيادات وتقديمهم للمحاكمة، وحكم على بعضهم بالإعدام، بينما حكم على كثير بالسجن مدى الحياة، وعلى رأسهم "مانديلا" ومعه أبرز قيادات الصف الأول للحزب، في حين قضى آخرون أزمنة في المنافي البعيدة..
ورغم العزلة القاسية في جزيرة "روبن" والمعتقلات الأخرى التي سيقوا اليها وقضوا فيها زهاء ثلثي قرن، مات خلالها بعضهم وشاخ الآخرون؛ لكنهم استمروا في النضال من قلب السجون وعملوا على ايجاد فرص ضئيلة للتواصل وحرصوا على الحفاظ على الروح واستمرار الزخم داخل السجون وخارجها..
لم يستسلموا للوهن، ولم يسلموا بالفشل، ولم يدينوا أنفسهم، وانما واصلوا المواكبة والعمل وحافظوا على بقاءهم كرموز كفاح ومقاومة وكأبطال ملهمين، وكانوا يعون ما يمثلونه بالنسبة لشعبهم؛ ولذا حافظوا على صلابتهم وقواهم وتماسكهم، ورغم كل المحن والعذابات والتحديات والقمع، لم ينكسروا ولم ينهزموا ولم يخذلوا قضيتهم قط، وكان يقينهم الكبير بعدالة نضالهم أكبر من أن يتهاوى تحت ضربات القهر والأزمنة القاسية..
ولم تذهب رهاناتهم سدى، فقد تهيأ لهم الوقوف على حصاد عقود متطاولة من التضحيات والسجن والتشرد.. وكانت الآية الكبرى وصول مانديلا بعد 27 سنة من السجن الى سدة الحكم وتدشين عهد جديد في تاريخ جنوب افريقيا عموما.
لقد أعيد الاعتبار لتاريخ طويل من النضال، ولصف كبير من القادة المناضلين الأحرار الذين لم ينسوا في ظلمات السجون.
الآن يقال لنا عليكم أن تنسوا كل تضحيات ثوار 11 فبرائر!!عليكم نسيان المعتقلين والمخفيين قسريا، عليكم نسيان عبد الخالق عمران ورفاقه المحكوم عليهم بالإعدام..!!
الآن يقال لنا أيسر ما عليكم فعله، هو نسيان ثورة 11 فبرائر، بكل ما عنته وتعنيه لكم ولقطاعات واسعة من الشعب..!!
الآن يقال لنا عليكم الالتفات لتغير المزاح الشعبي من ثورتكم السلمية، الباسلة، العزلاء، وذلك نتيجة لما آلت اليه الأمور وكأن المآلات مسؤولية شهداء فبراير وجرحاها وضحاياها، وكأن المآلات خطيئة الحالمين الذين خرجوا مطالبين برحيل صالح ونظامه المتعفن، وبذلوا كل ما عليهم وأحدثوا زلزالا كبيرا عصف بصالح وحكمه؛ لكنهم لم يحظوا بأحزاب كفؤة مستعدة للتعامل مع المخاض الثوري الكبير، ولم يحظوا كذلك بقادة كبار بقدر اللحظة وبحجم الثورة الفتية..
وبدلا من محاكمة هذه الأدوات القاصرة، والتي عجزت عن الدفع بالثورة الى حيث ينبغي لها؛ بدلا من ذلك تتم محاكمة فكرة الثورة نفسها، وادانة الثوار واتهامهم بالفشل دونما تفريق ولا انصاف.
هل فشلت الثورة أم افشلت؟
وهل المآلات مسؤولية الثورة والثوار؟
ومتى كان المزاج الشعبي محددا لصوابية الثورات أو خطأها؟
الشارع مجرد مزاج يمكن تعكيسه، ومازال الحاكم والمستبد قادرا على تحشيد الناس ضد أنفسهم ومصالحهم وضد أكثر قياداتهم اخلاصا وولاء ووطنية! بل مازال بوسع الجنون دفع الجموع للقتال ضد بلادهم وحرياتهم وكراماتهم تحت كل راية وبعد كل صرخة...!!
لكأنه لم يعد لدى 11 فبرائر ما تقدمه، في حين يجري تلميع قتلة الثّوار، ويتجند مأجورون كُثر لإعادة الاعتبار لـ "صالح" وحكمه، مقابل اسقاط كل مزية ورمزية لـ 11 فبرائر!
في ظروف طبيعية، كان علينا استفتاء شعبنا حول هذه الكيانات الخيانية، التي تشتغل ضد قضيته بصور سافرة.. كان علينا مسآلة الشرعية عن سقطاتها وخطاياها المدمرة!
ثمة الكثير مما يجب ان نستفتي شعبنا حوله، غير ثورة 11 فبرائر، فلم تكن خطأ ولا خطيئة.
اقراء أيضاً
لا مشروعية تتأسس على الخرافة والموت!
غزة الاستثناء المقلق
حين يكون الحضور عين الغياب