لا أبالغ إن قلت: إن التطور الرقمي، وظهور منصات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الألعاب والتسلية؛ قد جرّ الكثير من طاقاتنا من ميدان الفاعلية والتأثير، إلى ميدان التبعية والتأثّر..
هذه المنصات، نجحت بشكل كبير في صناعة مجتمع تفاعلي، أو قل حشد جماهيري يقضي جل وقته في ساحاتها؛ يتابع الأحداث ويتواصل مع الآخرين، مستغرقا وقته في التفاعل والتعليق، دون أن يملك مساحة زمنية ليقرر باستقلالية، أو يتخذ موقفا مدروسا من قضايا جدلية. ذلك أن تفكيره يكون جماعيا، يتسم بالعاطفة في تلك اللحظات، بمعزل عن تفكيره الفردي الناقد. وهذا ما ذهب إليه عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه الذي كرّسه لدراسة نفسية الجماهير، قبل أكثر من قرن.
إنها منصات تسلب التفكير الفردي الحر من كثيرين، لصالح شخصية القائد الذي يكون في هذه الحالة هو "المؤثر" الذي يملك عشرات الآلاف، وربما أضعافهم من المتابعين. وهذه الأرقام تساعد في صنع أرضية لقبول أفكار "المؤثر"، والاقتناع بها، في ظل وجود آلاف التعقيبات والتفاعلات، التي تنحاز إلى صف هذا "المؤثر". وهذا ينعكس سلبا على المتابعين، ممن لا يملكون خلفية معرفية تمكنهم من تمييز المحتوى، وتقييمه، والحكم عليه فيما بعد..!!
في زمن مضى، كانت التفاهة مستقبحة، يُنظر إلى فاعلها بازدراء، حتى وجدت طريقها إلى مواقع التواصل، وتطبيقات التسلية، فأصبحت ضربا من ضروب الإبداع والترفيه. ولو ولجت "اليوتيوب"، مثلا، ستجد مصداقا لكلامي في مئات القنوات، التي لا عمل لها سوى نشر التفاهات التي تحظى بعشرات ملايين المشاهدات، وملايين الاشتراكات..!!
وبروز التفاهة، كصنعة مربحة، قد جرّ الخيبات المريرة على من يحملون فكرا راقيا، لكنهم لا يجدون منفذا لإيصاله إلى عقول المتابعين، ولا يستسيغون الحط من قدراتهم والتحوّل إلى مهرجين، حتى ينالوا القبول لدى الجمهور الذي أصبح يشجع التفاهة ويرى فيها تسليته المثلى، ولكنه لا يرى فيها ذوقه المتردي!
وإذا جئنا إلى ميداني ”الفاعلية والتأثير“، و”التبعية والتّأثُّر“، في مواقع التواصل، نجد الغلبة للمؤثرين الذين يسّوقون لفكرة، أو موقف ما، أو معلومة مضللة؛ لا للجمهور- الذي يتأثر سريعا، ويروّج للمحتوى دون تمحيصه ونقده، أو يكتفي بالصمت في أفضل الأحوال!!
قبل عامين تقريبا، روّج بعض المشاهير، من المطربين العرب، لرقصة استعاروها من مغنٍ أميركي، واشتهرت فيما بعد باسم ”رقصة كيكي“، ووجدت هذه الرقصة التافهة طريقها، ليس إلى المراهقين فحسب، وإنما إلى أصحاب الشوارب الطويلة، التي يفاخر بها أصحابها في إثبات رجولتهم. هذا مثال واحد فقط لحادثة مشهورة، ولو تتبعنا أكثر لوجدنا عشرات الأمثلة التي تثير في النفس الغرابة والحسرة في آن.
إن طبيعة المنصات الاجتماعية، وما يماثلها من تطبيقات الترفيه والتسلية، أهدرت ملايين الساعات التي ينبغي ملئها بأعمال مثمرة؛ ناهيك عن إهدار الأموال التي تذهب معظمها إلى جيوب منشئي هذه المنصات؛ فضلا عن منح الغوغاء مساحة للتأثير، بنشر أفكارهم السمجة والركيكة، وتعطيل إعمال التفكير الناقد، الذي يشكّل حجر الزاوية في إعادة بناء الشخصية المستقلة لمستخدمي المنصات، وإعادة تقييم الموقف من محتوى هذه المنصات بشكل عام.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية