في مثل هذه الليلة من كل عام كانت الاستعدادات على قدم وساق في منزلنا، في مديرية بني يوسف بتعز؛ تجهيز عجينة الرماد بالجاز، شراء كرتون بطاريات للمسجلة والميكروفون، أشرطة أيوب الوطنية- وقد تم جمعها في شريط واحد- وكذلك علي الآنسي حيث كان والدي مفتونا به.
بعد صلاة المغرب تبدأ مراسيم الاحتفالات في القرية وإشعال النيران على السطوح، وكان المشهد الأكثر سحرا يأتي من مديرية الصلو، فالجزء الأكبر منها مكشوفا أمام منطقتنا.
معظم الناس يترقبون الثامنة مساء، ومع بدء الكلمة الرسمية لرئيس الجمهورية يتم إشعال النيران، وتبث الكلمة من أجهزة الراديو. لكن كانت الكفة الراجحة صوتيا هي لميكرفون والدي الأزرق، فقد كان يتردد صداه على جبال ثمران ومرتفعات سامع، سواء بصوت أيوب والآنسي، أو بكلمة الثورة الرسمية، أو بالتعليق اللاحق..
كان والدي يعشق التعليق الثوري، وكان قادرا على الاسترسال شارحا مناقب سبتمبر، وبين كل فقرة وأخرى يبث الأغاني الوطنية.
مازالت ذكرى اليوبيل الفضي للثورة عالقة في الذهن، فقد تم شراء بطارية سيارة للتلفزيون يومها، وكانت المرة الأولى التي نشاهد فيها التلفزيون نهارا؛ إلتمّ الناس أمام الشاشة الصغيرة، وكان العرض العسكري الضخم من ميدان السبعين بصنعاء، والتعليق التلفزيوني الهادر يبعث في النفس مشاعر لايمكن أن تنسى مهما مرت السنوات والعقود والأزمات. وبعد انتهاء العرض، حمل والدي الميكروفون وسيارة جارنا محمد أحمد، وتم تعليق الميكروفون على مرآة السيارة، وبدأ التجوال في طرقات القرية والقرى المجاورة، بالتعليق الصوتي والأغاني الوطنية، وكأن هناك حشدا لمهرجان انتخابي، وكان يتكرر الأمر في كثير من الأعياد الوطنية.
تذكرت ماكان يقوم به الوالد حين انتقلت للدراسة في صنعاء، وذلك حين كنت أشاهد سيارة (الحبة) الخاصة بخالد الحورش، تلك السيارة التي تجول العاصمة صنعاء محملة بصور الثوار والقادة وتبث الأغاني بمكبرات الصوت، وأعتقد أن معظم من عاش في صنعاء يعرفها. وبالمناسبة فذاك الرجل هو شقيق الشهيد أحمد الحورش، الثائر الذي أعدمه الإمام أحمد بعد ثورة 1948 برغم أنه كان أستاذه.
كنتُ غير مستوعب لأسمائنا التي سمّانا والدي بها، فقد حمل روحا سبئية سبتمبرية يمنية خالصة، حملته على تسميتي باسمي الحالي (غمدان)، وأطلق اسم (مارب) على أخي، ثم الثالث (ردفان) لرمزيته في مقاومة الاحتلال البريطاني، وأخي الرابع (عيبان) على اسم الجبل الذي قهر القوات الإمامية في حصار صنعاء، ثم (نصر) وكان آخر العنقود وخلق في عدن قبل الوحدة بأشهر.
مرت السنوات ونحن نتربى على روح سبتمبر، ولم ندرك عمق تفصيلها إلا حين أجبرنا الواقع على اعتناق هذا اليوم العظيم كملجأ لنا بعد أن رأينا الإمام واقعا، وتوحشه يكبر كل يوم أمام أعيننا.
اليوم لاملجأ لنا سوى تمثُّل روح سبتمبر، وتقدير تضحيات أولئك الثوار الذين عرفوا السجون والقيود والجوع والقهر، وخزائن الإمام مكتظة بما لذ وطاب، وكذلك تقدير التضحيات الجديدة منذ 2014 حتى اليوم، ونحن نرى السجون والتعذيب حتى الموت، وكذلك الموت جوعا فيما الأموال في خزائن الإمام الجديد.
سبتمبر لم يعد شعارا للتباهي والاحتفاءات، بل إدراك لحجم الكارثة التي تكبر كل يوم أمامنا، ونحن نشاهد هؤلاء المجرمين يعبثون بالمقدرات والأرواح، فقط لأنهم ينتمون لأسر معينة لا أكثر.
سبتمبر هو الحكم الأول بيننا، ومن ارتضى لبلادنا حُكما غيرها فسوف يذل، فمن طلب العزة في غير سبتمبر أذلته المنافي والسجون والجوع.
اقراء أيضاً
الحِنيّة البريطانية بين الحديدة ومأرب!
طارق.. قبعة أصغر من رأس تعز
تعز.. النموذج التائه!