المتأمل لما يدور في تعز يشعر بالأسى حيال النموذج الذي كانت تتمنطق به هذه المحافظة، وهي المحافظة التي اتكأت على نموذج الدولة باقل قدر ممكن من أدوات الدولة.
أتذكر مقولة لهشام السامعي: أن سيارة عسكرية واحدة تابعة للدولة كانت تحمي أمن تعز من الحوبان إلى الحصب. وفي المقابل السخرية التي تعرض لها أبناء المدينة من قيادات حوثية بينهم صادق أبو شوارب بأنهم مبنطلين وأنهم سينهزمون بالعصا ولا يحتاجون للسلاح للانتصار عليهم.
اليوم تتفتت كل الرؤى مع نجاح التحالف العربي، أولا، في تحويلها إلى مجرد إقطاعيات لوكلاء دول الخليج، التي لم تنجح في أي حرب فقررت أن تحارب نفسها في اليمن.
يتشكل اليوم نموذج في تعز؛ لاهو نموذج صنعاء بمليشياته الموحدة والتي تعرف ماذا تريد وآخر همها الناس؛ ولا نموذج مليشيات عدن التي لاتعرف ماذا تريد ولا يهمها الناس أيضا؛ ولدينا نموذج مارب، بكل ماعليه إلا أنه استطاع أن يحقق حضورا للدولة بشكل يستحق التوقف.
الحوثيون لديهم هدف سلالي واضح، واستعانوا بإيران استعانة؛ أما الانتقالي لم يكن صاحب مشروع ولم يكن موجودا وإنما فصلت الإمارات له مشروع لتلبية حاجياتها..
أما تعز، فلم تشكل نموذجها حتى اليوم؛ فلا هي عادت كدولة؛ ولاهي أصبحت مليشيا؛ ولاتشبه أي من النماذج الثلاث!!
يصارع الإصلاح في تعز بمنطق: إما أن أكون هنا أو أنتهي. وهو منطق لاينسجم مع حزب سياسي، لاينتهي بشخص أو بانتهاء أفراد أو مقرات أو منطقة جغرافية، فهو كيان سياسي يستحيل تبديده.
الصراع الناجم بينه وبين أحزاب سياسية أخرى في المحافظة، كالتنظيم الناصري، صراع لايحمل في طياته سوى عبث صنعته شخصيات ولم تصنعه الأحزاب. فليس من أدبيات التنظيم ولا التجمع أن يحاربا بعضهما، ولا أعتقد أن قيادات الإصلاح الكبيرة قد تساند مثل هذا الصراع. وبالمقابل لا أعتقد أن قيادات التنظيم الناصري تتفق مع طروحات أمينه العام فيما يخص الصراع في تعز.
الأسوأ من كل مايدور، هو: اعتبار وجود قوى طارق صالح، وأهدافها في الساحل، هي المنقذ لدى بعض الأطراف! برغم الخلل الواضح في تركيبة وأهداف جيش طارق! فهو لم يحب تعز ولن يحبها.. هو لديه ثأره، أولا وأخيرا، مع الإصلاح قبل الحوثي. ولذلك، لم- ولن- تكون له من تعز شيء؛ ولن ينتصر على الإصلاح؛ ولا الإصلاح يمكن أن يكون غبيا ويفكر بمنطق الحوثي ويتحول إلى مليشيا ويغزو الساحل! فيكفيه من التهم مايثقل كاهله اليوم، فليس أقلها تهمة محاولة الاستحواذ على كل مفاصل الحياة في مناطقه، وهي تلك التهمة التي أثارت مخاوف شركاؤه في الحياة العامة، وهو يرفض نقاشها مع ذاته ومراجعة سياساته بشكل عام.
الخطر الأكبر الذي يهدد تعز اليوم، هو تقلص مساحة السياسة لأقصى حد، وانتعاش لغة غير تلك اللغة التي عرفتها المحافظة؛ فتاريخها مليء بالصراع السياسي، وهو الصراع الذي أفرز-طوال تاريخ الديمقراطية بحدها الأدنى- برلمانيين من كل أطياف السياسة. بينما اليوم يصل الهمس إلى صراع مناطقي مقزز، بين شمال تعز ووسطها، وهذا مالم نعرفه على مر التاريخ!!
الملعب في تعز بحاجة لاستعادة السياسة بأداتها الأهم، وهي المواطن، وليس البندقية. المواطن هو أهم أداة سياسية يمكن الصراع حولها، وليس بها. وهذا يعني إعادة المساحة الآمنة لحركته وحقه في العيش بدون ابتزاز أو مخاوف، ومنحه الشعور بأن لديه عدوا واحدا، هو ذاك الذي جاء من خارج المحافظة ودمرها.
تحتاج تعز للتفكير، أبعد من مجرد خوض التنابز بين الأطراف/ الجهات، وانما جعل الهم الأول والأخير قلق عام على تلك المساحة المخصصة لحركة المواطن وحريته؛ لأن الحرب قامت لأجل تلك المساحة، وقدمت التضحيات لأجل تلك المساحة، وليس لأجل نقاط الجباية والقتل والخوف وقطع الطرقات.
إشكالية تعز، ربما، في أنها الساحة الوحيدة المتبقية للدولة، والأحزاب، والقوى، والشخصيات الهامة والرخيصة معا، كلهم يريدون إثبات وجودهم من خلالها؛ لكنهم فقدوا بوصلة أدوات التواجد، وغابت عنهم خارطة الصراع الذي يفضي إلى مصالح المحافظة، والذي بدوره يفضي إلى مصالح: الحزب، والشخص، والدولة.
اقراء أيضاً
طفولتنا السبتمبرية
الحِنيّة البريطانية بين الحديدة ومأرب!
طارق.. قبعة أصغر من رأس تعز