هذا زمن انقلبت فيه المفاهيم، وتبدلت المواقف بما يناسب العولمة العصرية التي اكتسحت الجوانب الدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وغاص الناس في الوحل بينما يخالون أنهم يسيرون في المرتقى.
لم يصل العرب إلى حالة من الانحدار كتلك التي نعيشها الآن، تطبيع مع الكيان الصهيوني، وتدمير ممنهج للإنسان والأرض، ومحاربة صريحة للإسلام، ترويج للشذوذ والإباحية يرافق ذلك شعارات مضللة لا تختلف عن سابقاتها التي استهلكت بما يناسب الفعل والزمن الذي ظهرت فيه.
لقد ألبسوا التطبيع ثوب الصلح والتعايش مع الآخر، وهم الذين لم يتعايشوا مع شعوبهم قط، يجيشون لها الجيوش، وينتهكون الحرمات، ويجهزون السجون لتفنى بين جدرانها القذرة ملايين الساعات من أعمار المظلومين.
لماذا يجب على الفلسطيني أن يتعايش مع الذي يهدم بيته ولا يجب عليه أن يرفض العدوان ويشهر سلاحه؟ لماذا يركز دعاة التعايش على ضرورة أن تتعايش الشعوب المظلومة مع الطغاة من بني جلدتها، ولا يدعون ولو لمرة الطغاة أن يكفوا ظلمهم وعدوانهم؟ ما معاييرهم التي تجعل إرهاب الدولة مقبولا وإرهاب الجماعات مرفوضا؟ إن هذه الدعوة للتعايش بهذه الصورة المختلة ليست إلا دعوة صريحة للضحية للاستسلام، وللطاغية بمواصلة الظلم والفساد.
ولم يعد التعايش مصطلحا خاصا بالنظم الوظيفية، فأبواقها التي تعمل طيلة الوقت لتسويقه مجتمعيا، قد نجحت كثيرا في غرس هذا المصطلح في أدبيات جيل المنصات الاجتماعية، وأصبح على المرء أن يتسامح مع من يطعن في عقيدته، ويتسامح مع الملحدين والشواذ والمنحرفين الساعين للقضاء على قيمه، بل يجب عليه أن يتعاطف معهم ضد ما يلاقونه من "تنمر" حتى يتصف بالتعايش، أما إذا رفض التعاطف أو هاجم دفاعا عن قيمه، فلن يكون سوى إنسان بدائي متخلف وربما متطرف.
لا فرق عندي بين من يدعو للتعايش مع من يحتل الأرض ويدنس المقدسات، وبين من يدعو للتعايش مع من يطعن بالمعتقدات ويروج للانحلال، كلا الأمرين يحملان روح التبعية والانهزام أمام الآخر، وكلاهما يدعوان الناس للخنوع والاستسلام والتوقف عن بذل أي جهد للتغيير.
إن من دعاة التعايش في عالمنا العربي، من يرغي ويزبد عندما يتعرض شاذ أو عاهرة أو ملحد للتنمر، أو عندما تتعرض آثار وثنية للهدم، ويدعو للتضامن ونشر ثقافة القبول بالآخر وفصل الدين عن المعاملات، أما عندما تدك الطائرات المناطق السكنية وتسويها بالأرض، وعندما تزهق الأرواح وتتطاير الأشلاء ويفر الناجون، وعندما تهدم المساجد ودور القرآن، فلا تجد إلا الحياد الذي تلمس في طياته، تأييدا للجريمة على استحياء!
إن الترويج للتعايش بهذا الشكل المهين، يمهد حتما لمرحلة جديدة في المنطقة العربية، يتحول فيها المدافع عن أرضه إلى إرهابي، والمحتل الغاصب إلى رسول حضارة وداعية سلام، وتتحول فيها الحدود الشرعية إلى أفعال قاسية ومتخلفة يجب التخلي عنها للحاق بركب الحضارة العصرية.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية