خلال جلساتنا العيدية المقتضبة، وأحاديثنا العُجالية التي كنّا نعزم أنها ستخرج عن القالب الدائم المسيطر عليها بعيدًا عن طبيعة المكان والزمان، كان صديقي يحدثني عن كل شيء إلا العيد وتفاصيله، وبالرغم من أنني آثرت اللقاء به في اليوم الأول، لكنّه قابلني بفتوره الذي عهدته فيه، وصافحني دون حفاوة، ثم قال: كيف حالك؟ إلى أين وصلوا في اتفاق الرياض؟
قهقهت مجيبًا إياه، ثم أخبرته أن الأمور تسير في اتجاه إيجابي إذا ما نظرنا إلى المنحنى الذي نحن فيه، والتجاذبات التي خاضها الطرفان منذ نحو عام كأنها كانت مجرد مسرحية للوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم، ولهذا -يا صديقي- بعده الذي لم يعد خافيًا على أحد، نحن مجرد كومبارس، ندفع الثمن كل يوم، وعلينا تقع تهمة العيش في بلد توشحه أحزانه على الدوام، وكلما حاول النهوض، أو حتى النظر إلى مستقبله من النافذة، جاءه ماضيه على وجه السرعة ووجه إليه صفعة تعيده إلى ما كان عليه، وتوقفه عما كان يعزم عليه لفترة زمنية أخرى.. هذا ما يريدني صديقي أن أخبره عنه، وهذا ما يحلوا لليمنيين الخوض فيه أينما حلّوا وارتحلوا، شعب لا يكل عن حمل معاناته وآلامه، ولا يعيش إلا في استجداء ماضيه، والتحسر عليه، وإن كان أسودا!
حاولتُ كثيرًا أن أطعّم حديثي بجوانب عيدية، لكنّه يقاطعني: أيوه، وبعدين، كيف بتكون الأمور؟
لا جديد يا عزيزي، أجبته، فكل ما في الأمر أنهم أرادوا من كل الدماء التي سفكوها، والأوضاع المعقدة التي تمخضت عن صراعهم المسلح، والمأساة الاقتصادية التي فاقمت من سوء الأحوال المعيشية لليمنيين، أرادوا الحصول على مناصب لا تُقدّم ولا تؤخر، أرادوا الدخول في ظل الحكومة الشرعية التي كانوا يحاربونها، ويعلنون مواجهتها، ويجيشون لطردها والانقلاب عليها، كما فعل أشقياء الله في صنعاء ذات يوم أسود من سبتمبر قبل ست سنوات.
ليس صديقي وحده من يأخذ معه حزمة الآلام اليمنية من مكان إلى آخر، حيث يذهب، في صباحه ومسائه، على وجبات طعامه الثلاث، وربما الواحدة، في طريقه راجلًا أو راكبًا، في مقيل القات، أو جلسة القهوة، كل هذه الأوقات مخصصة لمناقشة وضعه، وإن اكتفى توجّه بما بقي لديه من وقت وطاقة نحو تركيا وإيران وأمريكا، وربط ما يجري فيهن بما يحدث في اليمن، البلد الذي وقع ضحية سياسات نخبه المضمحلّة، وفي فخ نزوات العقائديين النّزِقين، وبين فكي منقذ ادّعى أنه سيعيد للعربية السعيدة اعتبارها الذي هشّمه انقلاب الحوثيين على مؤسسات البلاد وسلطاتها الشرعية.
ربما ننظر إلى هذه الحالة باستغراب شديد، لكنه بنظري نوع من الوفاء والتعلّق، وهذان شرطان كافيان لخلاص هذا البلد من محنه المتتالية، وإخراجه من أتون صراعاته المصطنعة، وهو ما سنصل إليه حتمًا، بإرادتنا وعزيمتنا، وبالتفافنا حول هذه البلاد التي لا تستحق ما يجري لها.
سنعبر إلى شاطئ الأمان، وسنستعيد جميعًا وهجنا الذي صادرته خلافات السياسيين، ونزق الجماعات ذات الخلفيات الدينية والسلالية، وسنغدو بأمان، إن كنّا كصديقي، وإن توشح آلام بلده التي لا تنتهي!
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل