بدا المشهد تراجيديًا كالمعتاد، الدموع وحدها والكلمات المتلعثمة هي من تتحكم في لحظات اللقاء الأول، بعد سنوات من القطيعة الجبرية، والأخبار المنقطعة، إنها أحضان إذابة الشوق، بين ابنة وأبيها، وأم وابنها، وزوجة وزوجها، وبين حبيبين حالت الحرب دون إعلان موعد لقائهما، هكذا كانت الصورة عند عودة المختطفين من سجون مليشيا الحوثي، بعد سنوات من القيود والأغلال.
احتفت بهم مدينتهم التي لم تنسهم أبدًا، واحتشد الناس في شارع جمال، ومن ثم في قاعة نادي تعز، إنها الانفراجة الموسومة بالتنغيص والألم، فالسنوات التي مضت، كانت جلها تنكيلًا وتعذيبًا، دون أي سبب تبني عليه المليشيا الحوثية تجاوزاتها بحق مدنيين لا علاقة لهم بما يجري لا سياسيًا ولا عسكريا، فقط من قبيل التلذذ والاستهداف الممنهج لكل من يحاول فعل شيء لأجل أبناء مجتمعه.
بقدر ما كانت الفرحة تملأ جنبات المدينة، كان الحزن يساور أهالي العائدين، الذين عادوا محمّلين بآهات لا تنتهي، وبعاهات مرضية مزمنة، منهم المعاق، ومنهم المصاب بأمراض أصيب بها خلال فترة اختطافه، كل هذه المنغصات، تجاوزها الأهالي مؤقتًا، برؤية ذويهم على قيد الحياة.
لا أصدق بأن هناك خبث يتجاوز حدود التوقعات؛ فقط لكون الآخر يخالف في الرأي، ولا يرى صوابية في ما أقوم به، وهذا بحسب الميثاق الحقوقي العالمي حق لكل إنسان، إذ يعبّر عن رأيه وقناعاته دون تحجيم، ولكن جماعة مليشاوية مستبدة كالحوثيين لا يوجد شيء من هذا في قاموسها، فمن يخالفها الرأي حُكم عليه بالتغييب القسري، أو الموت الفوري، وفي أحسن الحالات يحال للسجن دون أي اهتمام، ويتعرض لصنوف العذاب والتنكيل، على المستوى النفسي والجسدي.
75 مختطفًا عادوا بعد قضاء سنوات في دهاليز التغييب، دون تهمة توجب ارتكاب ذلك في حقهم، إنهم مدنيون، آثروا أن يكونوا إلى جوار الناس، يوفرون احتياجاتهم، وينادون بتوفيرها، ولكل منهم طريقته، وتلك لدى الحوثيين جريمة تستوجب العقاب، على الطريقة التي تحددها، مستخدمة طرقًا شنيعة للتعذيب.
على الطرف الآخر، للمليشيا أسرى حرب لدى القوات الحكومية، كلهم أسروا خلال مواجهات عسكرية دارت خلال الفترة الماضية في أطراف تعز، لا يوجد فيهم مدني واحد، أسر لأنه ينتمي للمليشيا، أو يحرض الناس ضد الحكومة الشرعية وقواتها العسكرية.
أذهلتني صور الأسرى الحوثيين، الذين عادوا سالمين، وكأنهم كانوا في رحلة سياحية في إحدى الدول الإسكندنافية، وهناك خضعوا لبرامج مكثفة سياحيًا وتعليميًا، حتى على مستوى اللبس، انتقوا لهم ألبسة موحدة وأنيقة، عادوا أفضل مما كانوا عليه حين تم أسرهم، وهذه إشارة كافية للمنظمات الحقوقية الدولية، وللخبراء الأمميين، بأن الحكومة الشرعية تراعي كافة حقوق الأسرى، وتنفذ القوانين الدولية الملزمة في هذا السياق، على عكس ما ارتكبته المليشيا في حق مختطفين مدنيين، اقتادتهم من منازلهم ومن بين ذويهم، وفي أوقات متأخرة من الليل.
علينا أن نكون منصفين في هذا الجانب، إنها إشارة سلام كاملة الأوصاف، على الساعين لسلام يمني يمني أن يستغلوها، ويبنوا عليها توجههم المستقبلي، نحو سلام دائم وإيجابي بين اليمنيين، وأن يُلزموا الحوثيين أن يعاملوا من اختطفوهم بذات المعاملة التي يُعامل بها أسراهم في المحافظات المحررة، هذه نقطة فارقة، لها أبعادها، على مستوى إظهار حسن النية، نحو وضع حد للحرب، أظهرتها الحكومة الشرعية، ويعمل الحوثيون عكس ذلك، إذ يتمسكون بنهجهم المليشاوي العبثي في كل ما له علاقة بحياة اليمنيين.
الدموع التي ذرفت أثناء مشاهدة الفيديو الموثق للحظة الأولى من لقاء الناشطة ربا جعفر بأبيها المختطف منذ أربع سنوات كاف لإيقاف حرب عالمية بين دول برمتها، وليس فقط بين طرفين، لديهم من القواسم المشتركة ما تنهي الحرب فورًا، هذا الفيديو جدير بإعادة كافة المختطفين لأهاليهم، إن كانت هناك مشاعر تحركها ضمائر حية، وإن كانت هناك إرادة فعلية لإنهاء هذه الحرب العبثية، والتوجه نحو حل يعيد الاعتبار لليمن أرضًا وإنسانا.. إننا نريد السلام، ولكن لا يوجد من يؤمن به حقًا، ويمنحه إكسير الحياة، ليصبح واقعًا يلمسه اليمنيون، فمن يتبناه، ويبنيه؟!
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل