عرف العرب السيرك قديمًا كمسرح شعبي مستدير، يحتضن تمارين الفروسية وترويض الحيوانات من قبل أصحابها، وهو كذلك مضمار جوّال، كأن من فيه يدورون في حلقة لا بداية لها ولا نهاية.
تمامًا كالذي يجري في جدة بين الحكومة اليمنية الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، وكأن دوامة الصراع التي نحن فيها كُتب لها أن تستمر عمرًا مديدًا، ومعه معاناة اليمنيين وآلامهم.
من البديهي أن تتخذ الحكومة الشرعية مواقف حقيقية وواضحة، باعتبارها الحامل الشرعي، والممثل الدولي للشعب اليمني، وصاحبة القرار الفعلي في مثل هكذا تطورات خطيرة تشهدها البلاد، لذا فإن أي مواقف صادرة يجب أن تمثل اليمنيين وتطلعاتهم في دولة تمثل الجميع دون استثناء، وتنتمي لما رسموه منذ عشرات العقود.
أما الكيانات الفجائية، ووليدة اللحظة، التي حلّت في زمن بيني، بصناعة غير يمنية، فلا وجه لها فيما تريد أن تقوم به، ولا يمكنها أن تكون خارج إطار الإجماع الوطني، الذي يغلّب المصلحة العامة دون استثناء، فالانتقالي يمثل جسر عبور مؤقت، لمشروع غير يمني، ولا حتى جنوبي، حيث العصبوية والجهوية، والممارسات الصبيانية شعار كيان يدّعي أنه ممثل لخيار شعبي جنوبي، وهو ما ينفيه الجنوبيون المسالمون الباحثون عن دولة للجميع، تضمن الحقوق ولا تسلبها، كما يفعل البديل القسري، والمفروض من قبل قوى تحاول تشتيت الجهود اليمنية، وإغراق البلاد في وحل الفوضى، بما يضمن لها استمرار مشاريعها المتقزمة.
إن التسريبات المستمرة لنقاط اتفاق جدة مبشرة لليمنيين، على الأقل عطفًا على الظروف المرحلية التي نمر بها، وهي أيضًا كمعزز للحضور الشرعي، وحشد الجهود لاستعادة مؤسسات الدولة وبسط نفوذها على الخارطة اليمنية كلها، تعتبر كذلك فاضحة لمشروع الانفصال الذي تحاول أجندة غير وطنية فرضه، أو ضمان أن يكون على المدى البعيد، وهو خيار غير شعبي في الوقت الراهن.
لقد بدا جليًا أن ما جرى في عدن يأتي ضمنيًا في سياق الصراع الغير معلن بين طرفي التحالف، وتباين أهدافهما خلال تدخلهما في اليمن، وأوسع من ذلك أنّه عرّى المفترض دعاة الثورة الجنوبية، الممثلين لمصالحهم وقناعاتهم الشخصية، ولمآرب الممول الخارجي ومخرج أحداث عدن الدرامية، لقد عرف الناس ما يريدونه الآن، إنهم دعاة فوضى منمقون، وسعاة مناصب، يركضون خلفها من عاصمة إلى أخرى، لا يهمهم الجنوب ولا مطالبه المشروعة، ولا يعرفون منه سوى اسمه، واتضح ذلك خلال مفاوضات اتفاق جدة غير المعلن، والذي بات يشكل سيركًا يمنيًا بامتياز، تخوض فيه الأطراف سجالات التفاوض، وبينهما الوسطاء، الذين تسببوا في أن تصبح صورة اليمن باهتةً أكثر من أي وقت مضى في تاريخها المليء بالأحداث الأسطورية.
لا أدري لِمَ يحضرني اتفاق السلم والشراكة؟ وهو الذي كان بفرض القوة المسيطرة، وبإشراف الأمم المتحدة، وبحضور خليجي ودولي من قبل الدول الراعية للمبادرة الخليجية، والذي بإتمامه شرعن الانقلاب الحوثي، وجذّره في عمق الحدث اليمني، ليصبح فيما بعد شيئًا من الماضي، وتسيطر المليشيا على كل شيء أمام مرأى ومسمع الشركاء والرعاة للاتفاق.. أخشى أن تُعاد التجربة، حيث والمخرج ذاته هو من يترصد للإرادة اليمنية، منذ الوقوف في وجه ثورة الجمهورية في سبتمبر 1962، وانقاذ النظام السابق عبر المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، التي شكّلت امتدادًا للفشل الممنهج الذي يصيب الحياة السياسية اليمنية بفعل الأشقاء ونزواتهم التي لا تنتهي في اليمن.
أتطلع كأي يمني لحل يعيد الاعتبار للحكومة الممثلة لليمنيين، وبما يوحد الجهود لاستعادة فاعلية الدولة وتعزيز حضورها الشعبي دون منغصات، والعمل بروح يمنية مستلهمة من التضحيات المقدمة في سبيل ذلك، دون هكذا اتفاق فإنه سيكون تكريسًا لمراحل أخرى من صراع لا نهاية له، وهذا ما لا نريده ولا نتمناه.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل