الإيمان بحاجة إلى يقين، واليقين لا يكون إلا بإرادة كاملة، وحرية لا أفق لها، وهذا ما لم يحد عنّه الشباب التونسي من البداية، فثورتهم البكر، كانت أولى ثورات الربيع، وتجربتهم التي ذادوا عنها بطموحاتهم وسلامة تفكيرهم وسلاسة تعاطي القوى الأخرى معهم، من قبيل أنهم يملكون مفاتيح الشأن، وتقرير المصير، حتى أن من كانوا مقربين من زين العابدين، خضعوا للثورة وعملوا بمقرراتها مرغمين، وذلك لأن حصن الثورة منيع، وشبابها يحرسونها ويكلأونها بعنايتهم التي أفرزت تجربة ديمقراطية مشهودة، مازالت حية بحمى الثورة وكنهها الفريد.
في الأمس، خرج التونسيون في كرنفال ديمقراطي هو الثالث خلال شهر واحد، لم يكلوا ولم يملوا، وفي كل مرة يختارون الثورة، ويعلون من شأن بلادهم، ويقدمون أنفسهم كما يليق بهم، مساندين للوطن، مؤمنين بالثورة، مستمرين في نهج الحرية والتداول السلمي والسلس للسلطة، إذ لا خيار ولا اختيار لمن قد يكلفهم كل ما قدموه خلال الثورة وسنوات التحوّل الديمقراطي.
انتصرت الثورة ومثلها القيّمة، وتلك حملها دكتور جامعي مغمور، أراد أن يخوض غمار المنافسة الديمقراطية متسلحًا بقيم الثورة، لا تسانده السياسة ولا الأيدولوجيا، أقتحم المعترك معية 25 مرشحًا، بينهم رؤساء حكومات سابقين، ووزير الدفاع الحالي، ومجموعة من وزراء سابقين، وحده كان يمثل تيار الثورة بمفهومها العميق، لا ينتمي لأي حزب، ولا يؤيد منظورًا بعينه، ولا علاقة له بمعترك الأيدلوجيا الذي يعبث بالمنطقة، وتتخذه القوى المضادة للربيع العربي ذريعةً لاستهداف دوله واحدةً تلو أخرى.
أسعد فوز سعيّد ربيعيي الوطن العربي، ووجه صفعةً غير متوقعة للقوى المضادة، التي لم تهنئ بعيش منذ مطلع 2011 وحوّرت جهودها وجيشت إمكانياتها لتقويض الربيع العربي ووأد قادته من سوريا إلى مصر مرورًا بليبيا واليمن، وحدها تونس كانت عصية، ووقفت في وجه العاصفة قوية شديدة متوحدة، مسنودة بجيشها الوطني الذي لم يختل توازنه، وبقي على حياده من كل ما يجري سياسيًا، وانحيازه إلى الشعب وإرادته الثورية التي لا ولن تتزعزع.
من الجميل أن تبدو تونس بهيّة الطلّة بعد مخاض انتخابي عسير، وأجمل من ذلك انتصارها للربيع العربي الذي كادت وروده أن تذبل بفعل العبث الذي تتصدره دول النفط، وتستميت في تشويهه بفرض الخريف قسرًا، وتتعدّى ذلك لفرض ما يتماشى مع النزق الاستعماري والاحتلالي للمنطقة، أكثر مما تريده وتتمناه القوى الاستعمارية ذاتها.
إن انتصار تيار الثورة في تونس يمثل انتصارًا للربيع العربي برمته، ويمده بالطاقة اللازمة للعودة إلى صدارة المشهد في بلدان تصارع من أجل العودة، ويملأ كيان الثورات المتجددة في السودان والجزائر بمزيد من الإصرار حتى نيل الحقوق كاملة، وقد أوشك أن يكون ذلك في الدولتين الثائرتين.
تابعت المعترك الانتخابي التونسي عن كثب، وعشت مع ثواره كرنفالهم الديمقراطي، واستمعت لتطلعاتهم من السنوات الخمس القادمة التي اختاروا فيها من يمثلها خير تمثيل، وكنت مشدوهًا من الوعي المجتمعي والإرادة الشبابية، والحضور الشعبي الملفت، الذي تجاوز حدود الجولة الرئاسية الأولى وانتخابات التشريع؛ وذلك إنما يؤكد أن التونسيين لبّوا نداء الثورة، وكلهم يلهجون بضرورة أن تستعيد تونس مكانتها خلال السنوات القادمة، وقد عبّروا عن ذلك عبر حضورهم للمشاركة، واختيارهم لتيار الثورة المتمثل في قيس سعيّد، الفقيه الدستوري وأستاذ القانون الذي رفض المنحة الحكومية لتمويل حملته الانتخابية، قائلًا: هذا مال الشعب، وهو ذاته من علّق حملته الانتخابية حتى يمنح منافسه نبيل القروي حق تكافؤ الفرص خلال جولة الإعادة، وهذان الموقفان كفيلان بتعريف الرجل وتقديمه بما يليق به وبالثورة وبتونس.
سيكون الرجل أمام تركة ثقيلة، اقتصاديًا وسياسيًا، إذ من المهم أن يكون عند مستوى الخيار الشبابي الذي سانده ووقف إلى جانبه، ولا بد من معالجة نتوءات الاقتصاد المتفاقمة، ووضع حلول جذرية لقضايا الشباب وأولها البطالة، يضاف لذلك تعامله مع مستجدات الخيار الشعبي التشريعي، والتقارب الكبير مع القوى الثورية، وتعامله مع الملفات المحيطة به، كليبيا والجزائر، وذلك عهده مع الثورة والثوار.
نتمنى لتونس التقدم والازدهار، ولشعبها الأمن والأمان، ونتطلع لعودتنا إلى مسار الثورة آمنين، لا مرتهنين لقوى أيدولوجية تخوض معاركها بنا وبتطلعاتنا، وتستسلم لضغوطات الثورة المضادة، التي كانت في مقدمتها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية.. هنيئًا لتونس انتصارها، وتهانينا.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل