لطالما كانت كلمات المديح والتطبيل للزعماء منفرة للسماع، وتجعل قائليها محط احتقار وسخرية، إلا إن زمن الثورات المضادة جاء حاملا معه ظاهرة الصنمية، كعنصر فعّال في تسويق شخصيات جديدة وإعادة إنتاج أخرى، يضفي عليها هالة من الألقاب بما يعلي قدرها بين العامة ويزرع الرهبة في الصدور.
ومن المهم الإشارة إلى أن وسائل إعلامية وشخصيات لها دور في الثورة على الأنظمة السابقة، أصبحت بوقا للتمجيد وتقديس الشخوص وهي التي كانت تعيب في زمن ثوريتها ما يصنعه الموالون للأنظمة البائدة.
وإذا نظرنا إلى الصنمية كظاهرة غزت الأقطار، فسنجد أنها تحاول إقامة حاجز منيع يحول بين القائد الملهم ومطالب ونقد الناس له، النقد الذي يرقى إلى درجة الإساءة في أحايين كثيرة ويلقي بصاحبه في السجن أو يجعله عرضة لحملة شعواء يتقدمها الرعاع ويهلل لها مرضى بداء الجهل والتخلف.
إن المتابع لبعض الأخبار التي ترد بين حين وآخر، والمواقف التي تحدثها، وطريقة التعاطي معها، يدرك بفطرته أن شخصيات وضيعة يراد لها أن تصبح رموزا لا يطالها النقد، ورموز تاريخية يراد لها أن تصبح محض خرافات رويت من أساطير الأولين.
في الإمارات، منبع الثورات المضادة، لعق إعلامي حذاء مفترض لسيده ابن زايد ووضعه فوق رأسه، وهو يحث كل مواطن إماراتي على أن يكونوا كمثله في الانحطاط والعبودية، ولم تصدر سلطات ابن زايد موقفا من إهانة غير مباشرة للشعب الإماراتي من قبل لاعق أحذية!
أما في أم الدنيا، فكان لأتباع السيسي قصب السبق في تقديس الرجل وترفيعه إلى مقام رسل الله كموسى وهارون، بينما هو في الحقيقة أضحى أسوأ من فرعون، يقتل ويبطش وينكل بالناس ويضيّق عليهم سبل معيشتهم، ومع ذلك لا يجرؤ أيا كان على نصحه فضلا عن انتقاده، ولو خاطبه لينا كما خاطب موسى عليه السلام فرعون.
في أرض سبأ، ثمة من يرى في عبدالملك الحوثي خليفة الله في أرضه يقول فيطاع، ويأمر فتذعن له بالرقاب، وينادي بهم فتفتديه الألسن بالأباء والأمهات وفلذات الأكباد، وهو فوق ذلك لا يمكن أن يكون لكلمة واحدة في خطبة من خطبه أن تصبح محل انتقاد وتقييم.
وبطريقة تتشابه ولو بشكل محدود مع نموذج الحوثي، نجد ظاهرة الزعيم الرمز حاضرة في معسكر الشرعية، إذ يرى بعض المنتفعين في هادي شخصية فذة، لايجب أن يطالها النقد ولو كان إيجابيا، حتى لا تهتز سفينة الوطن وربانها الملهم، وإن تطلب الأمر فليغرق الركاب ولتغرق السفينة لكن ليبقى القائد الرمز!
ظاهرة تصنيع الرموز ليست جديدة، لكنها تطورت في أدواتها واتسعت لتشمل رواد الفن والطرب واللهو ممن يراد لهم أن يصبحوا قدوة تتحلى بهم الأجيال القادمة، وتصبح أصواتهم ورقصاتهم دروسا تقرر في مدارس التعليم.
الآن دعونا نرى الأمر عندما يتعلق الأمر بالإساءة إلى رموز تاريخية إسلامية في قنوات مصرية وسعودية وإماراتية وغيرها، هل تثور ثائرة الزعماء وأبواقهم وتطالب بمثل ما تطالب له عندما يتعلق الأمر بشخص الرئيس؟ لقد شكك في البخاري وصحيحه في قناة إماراتية رسمية، وتعرض صلاح الدين الأيوبي للطعن في قناة مصرية موالية، ولم يتم اتخاذ أي إجراءات لوقف هذه الإساءات، بل لربما يكون العقاب من نصيب من يدافع عن الرموز التاريخية مثلما حدث مع الداعية خالد الراشد الذي يقبع في سجون آل سعود لنحو 15 عاما بسبب دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لمقاطعة الدنمارك إثر قضية الرسوم المسيئة.
وهنا لست أعجب أن يكون لطواغيت العرب أبواق وأقلام تذود عنهم وتعلي صوتها لإسكات صوت الجماهير، ولا أعجب أن يكون لبائعة هوى تكشف مفاتنها ملايين المعجبين يهتفون باسمها ويقفون إجلالا لها، لكنني أعجب عندما يطعن في تاريخ بطل له وزنه في التاريخ الإسلامي، أو يتهم صحابي جليل بالسوء ودناءة الخلق من على منابر الفضائيات، ثم لايجد قلم حر ينافح عنه ولو في إطار حرية التعبير التي تطال رموز ضاربة الجذور في تاريخ الإسلام ولا تجرؤ على انتقاد جريمة أو خطأ لرئيس أو مسؤول في الدولة، بدعوى الحفاظ على الأمن القومي!
وإذا أردت معرفة كيف أصبحت رموز التاريخ الإسلامي لاوزن لها بين بني جلدتنا مقارنة بتاريخ الآخرين فلا أبلغ مما ساقته لنا الأخبار خلال الشهر الفائت والشهر الجاري؛ ففي مايو أوقفت شبكة الجزيرة القطرية اثنين من صحفييها بسبب إعدادهم محتوى يتضمن اتهامات لإسرائيل باستغلال محرقة الهولوكوست لتحقيق مكاسب سياسية، بينما اكتفت شبكة التلفزيون العربي القطرية بإصدار اعتذار عن استضافتها لشخص هاجم الخلفاء الراشدين ووقفهم بالمنافقين والجواسيس، وأقصى ما فعلته هو حذف الحلقة بعد اعتراض المشاهدين دون أي إجراءات عقابية بحق المسؤولين عن الاستضافة ومعدي البرنامج، علما أن الضيف معروف بتاريخه المعادي للصحابة، وإنكار السنة النبوية بشكل كلي.
إن هذه المواقف الآنفة الذكر، ليست هفوة أو زلات عفوية، بقدر ما تشير إلى وجود أدوار وظيفية تتفق في صناعة رموز تتفق وتوجهات المرحلة الراهنة، بالتوازي مع التشكيك برموز تاريخية يصل تأثيرها إلى صدر عصر الإسلام، وهذا التشكيك سيكون كارثيا مالم يتم التصدي له ولمخاطره على الأجيال القادمة والهوية الإسلامية.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية