كانت الزيارة الأخيرة لي إلى تعز قبيل الاجتياح الحوثي لمدن اليمن؛ في أول احتفائية بصدور أول أعمالي الأدبية.
طفنا كل شوارعها الهادئة والصاخبة، وزرنا أجمل الأماكن فيها، وعشقت كل شيء فيها، عدى مذاق ماؤها وذلك الجو الحار في أوائل فبراير لعام 2015.
المدينة الساحرة كانت على موعد مع العواصف الأشد حرارة، كبقية مدن اليمن، إلا أن لهيبها كان مستعرا أكثر من كل المدن.
في تقديري أن أخبار هذه المدينة غطت على 80 % من اهتمام نخبة اليمنيين على مدار سنوات الحرب. مدينة ساخنة الأحداث دوما، تثير دهشتك وحنقك وفخرك.
مدينة المشاقر والمقابر الجماعية؛ مدينة الكتاب والكلاشنكوف؛ المدينة التي نادت بالمدنية فامتلأت بالمسلحين والرصاص..
وقفت سدا منيعا أمام الحوثيين، في عناد ودراية بجريمة الاستسلام. ومع ذلك تدير ظهرها إليهم، بين فينة وأخرى، لتقوم بإنهاء خلافاتها الشخصية في شوارعها الخلفية بصلابة، تثير ضجيج وصراخ كل من في خارجها.
لعل ما يحدث فيها ليس خلافات رفاق السلاح؛ بل اثبات وجود مفروغ منه؛ تضحيات المقاومة، خلال سنوات الحرب الأربعة، لن تسلم لأي أحزمة ناسفة خارجية.
يمكن للمدينة الحالمة أن تكون لبوة كاسرة، حين تمسّ كرامتها واستقلالها، وستقطع بقوة أصابع العبث بشرفها كمدينة يمنية ذات سيادة.
يسقط الأطفال، وهم يلعبون بشظايا طائشة؛ برصاص طائش من قلوب وعقول طائشة ..
تصرخ طفلة في تعز: "آه يا قلبي". ربما تذكرت استغاثة قرينها، حين استعطفهم قبله: "لا تقبروناش".. لكنه دفن مع صرخته..!!
تعز، أطفالها يحملون أوجاع الكبار، وكبارها يلعبون بمصيرها كالصغار..!!
تتقلب تعز بين أتون الحرب، ومظاهر السلم، بسرعة الضوء؛ فليس غريبا أن يشهد شارع جمال مواجهات مسلحة صباحا، وفي المساء جولات الناس وهم يتسوقون بحثا عما يقيم أودهم..
حصلت تعز على جرعة مضاعفة من معاناة الماء والكهرباء بفعل الحرب. بالإضافة الى حصار خانق يحرمها إيصال المواد الغذائية.
ولأن الحياة لا تنتظر أن تنتهي الحرب كي نعيشها، بل يجب أن نعيش بالممكن المتاح، هذا ما فعلته تعز: تعيش بالممكن المتاح وتكافح كي تعيش أيضا..
عاد الكثير ممن نزحوا ورمموا بيوتهم دون انتظار لإعادة الأعمار.. أنه النضال بنكهة العناد لهذه الحرب. يمارسون حياة طبيعية قريبا من حياة الحرب القاسية.
تفتح الأسواق عقب الاشتباكات؛ وتقام الفعاليات الثقافية التي تحلم بالسلام على وقع المدافع. تفتح الجامعات على خط التماس ويهرع الطلاب للدراسة رغم القصف..
يكفي تعز أنها شهدت مظاهرات حزبية في واقع هذه الحرب.. هذا النشاط، بحد ذاته، أمر عظيم في مدينة تنادي وتسعى لدولة مدنية. هذه الدولة المدنية، التي لن تقام إلا بقوة القانون، الذي يحترم حق المدينة في حريتها ومصيرها.
تعز "عزتها باقية"، لا شيء باق سواها..
تظل تعز معشوقة القلوب.. عصية على النيل.. مدنية وحالمة وحرة.
اقراء أيضاً
عمل المرأة بين الحرية والاضطرار
اليمنيون بين قصفين
مستقبل اليمن في إحياء القومية