كلما ارتقى شهيد في هذا الوطن، أو حتى قتيل في الطرف الآخر؛ ذهبت حواسي وأدراكي إلى ذلك القلب الأبيض في ركن البيت، الذي حولته الحرب إلى ركن أسود من الحزن والأسى؛ إلى قلب الأم الذي يسقط قتيلا بعد كل فقد.
نتألم لموت أبنائنا في الحرب وارتقائهم شهداء.. نتألم على شبابهم الغض؛ طموحهم القتيل؛ أحلامهم الذبيحة؛ ويأسهم المؤلم من هذا الوضع..
نتألم لكونهم يذهبون في ريعان العمر، لاستعادة دولة؛ كان المفترض أن تراعهم، وأن تمدهم بسبل الحياة الكريمة.
يرتقون، مع خيبتهم من شرعية، لا تمدهم حتى بالدعم من أجل تحقيق النصر. نتوجع لكل هذا؛ لكن الوجع يقف ذاهلا عند قدمي أم ثكلى..
لا أحد يشعر، أو يدرك، كم أن ذلك الفراغ في قلبها هائلا، وقاتلا آلاف المرات، من قتلة موت واحد..!!
الرصاصات التي اخترقت جسد ولدها، تخترق روحها مئات المرات كالسيل، كل يوم وهي تتذكره بين أخوته، وتراه في أدواته، وتتنفس رائحته في ملابسه وفراشه؛ وتسمع صوته مع كل صوت..
إنها كلماته ونظراته التي ترافقها .. هذا الفقد الذي يهلك روحها كل يوم ..
كثيرات هنّ الأمهات الآتي أقامت الحرب قيامتهن؛ عصرت قلوبهن دمعا كالمطر على قبور أبنائهن.. كثيرات ماتت الحياة بعيونهن بموت أبنائهن..!!
ما كان الله ليطلب من السيدة "هاجر" أن تذبح ولدها "إسماعيل"، وما كانت لتفعل ..!!
أمر الله سيدنا "إبراهيم"، "فتّله ُللجبين" كي لا يرى وجهه وهو يذبحه امتثالا لأمر الله.
فرفقا بقلوب الأمهات أيتها الحرب.. رفقا بقلوب الأمهات أيها الرجال.. فأحزان الأمهات لا تدركها سوى أم..
عندما استشهد محمد ابن أخي، في عمران، رأيت الموت في عينيّ والدته.. سكن بيتنا أعواما بديلا عنه، وأخذ شطر قلب أمه وصحتها.
وحين استشهد محمد الثور، ابن مربيتنا الفاضلة أم أسامة، سمعت الموت في نبرات صوتها حين اتصلتُ بها أعزيها في ولدها. ورغم تصبرها وثباتها، تسلل إلى سمعي نحيب روحها، وهي تتحدث عن استحالة انتشال جثمانه، وأن ما وصلها مجرد صورة بعيدة، تبينت فيها ملامحه وهو قتيل في ذلك الوادي بصرواح..!!
هطلت دموعي لوجعها كالمطر.. وبدلاً من مواساتها، أخذت تواسي ضعفي وحزني..!!
إنما؛ حين ارتقى "عزّ الدين"، ابن صديقتي "حياة"، عجزت عن مقاربة الموت في مواساتها..!! ماذا أقول لها في هكذا فقد وهكذا حزن؟!
"عز الدين"، الغض الجميل، ابن الثامنة عشرة، اقتلعت الحرب قلوبنا حين اختاره الله شهيدا.. توارى، من بين أخوته ورفاقه، بضحكته العذبة، حاملا راحة قلب أمه..!!
ومما يؤلم حقا، هو جثامين الشهداء الذين يرتقون في مناطق التماس، حين يكون هناك استحالة في انتشالها..!!
عشرات الجثامين، مازالت حيث التقت ربها منذ شهور طويلة، ويقين استشهادها لا يأتي إلا عن طريق التواصل مع الحوثيين..
يظل قلب الأم معلق بالأمل: أن يكون ولدها أسيرا؛ أو مهشما بالعذاب: أن يكون جريحا..!!
ما صنعته الحرب في الأمهات، هو الحرب أضعافا.. وكأن الحرب حصادها دموع الأمهات..
وجعي على قلوبكنّ أيتها الأمهات؛ الشهيدات، الصامتات، الصابرات..
كم تقسو الحروب عليكنّ قسوة مضاعفة !!..
كم تحرمكن من الحياة، مرات ومرات، وليس دفعة واحدة !!..
اقراء أيضاً
عمل المرأة بين الحرية والاضطرار
اليمنيون بين قصفين
مستقبل اليمن في إحياء القومية