من الواضح جدًا أن رئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار بالحديدة الجنرال الهولندي المتقاعد باتريك كاميرت، لم يكن على دراية كاملة بتعقيدات الوضع في اليمن، قبل أن يتخذ قرار موافقته بالعمل ضمن الجهود الأممية الرامية لإحلال السلام في اليمن، ذات الأزمة الأكثر تعقيدًا في العالم.
يتمتع الرجل بخبرة فائقة، تمتد لربع قرن، في إطار البعثات الأممية الإشرافية والمُراقِبة لإتمام السلام في أكثر من دولة بدأها بكمبوديا في تسعينيات القرن الماضي واختتمها بجنوب السودان في 2016م، وعلى الرغم من أن النجاح حالفه في مسيرته السابقة، إلا إنه اصطدم بالحالة اليمنية على غير ما هو متوقع بالنسبة له، فالعناد، والتعقيد، وسوء الطالع، وانعدام الثقة بين طرفي الأزمة اليمنية، كلها عوامل مشتتة لجهود كاميرت، الذي أخذ على عاتقه مهام تنسيق إعادة الانتشار في الحديدة، كأول تنفيذ لاتفاق السويد بخصوص إحدى أهم محافظات البلاد وأكثرها بعدًا على المستوى الاستراتيجي.
في الخامس عشر من ديسمبر، بُعيد اختتام مشاورات السويد، وافق كاميرت على المهمة الأممية، لتنفيذ إعادة الانتشار، متسلحًا باتفاق السويد حول الحديدة، وبموافقة الحوثيين لأول مرة في تاريخ الصراع بالانسحاب من الحديدة ومينائها البحري، على أن يتسلم الجيش تأمين محيطها مرفودًا بالمراقبة من لجنة إعادة الانتشار برئاسة الجنرال الهولندي، على أن تتشكل لجنتان من الطرفين للتباحث والتشاور حول آلية إعادة الانتشار بما يخدم اتفاق السويد، ويعيد الحياة للميناء الاستراتيجي الذي يستقبل ثلثي المساعدات الإنسانية لليمن.
الخميس الأول، تعرض موكب كاميرت لإطلاق النار، بعد انتهاء اجتماعه بممثلي الحكومة الشرعية، ما يعني أن الرجل بدأ يحقق نجاحًا أوليًا فيما يتعلق بتقريب وجهات النظر، والدفع نحو إعادة الانتشار بالشكل المتفق عليه، بعيدًا عن مسرحية المتمردين الحوثيين، الذين أقاموا احتفالية للتسليم الصوري، وخلعوا عن مقاتليهم الزنّة وألبسوهم البزّة، قبل أن تتنبه لذلك الأمم المتحدة تحت ضغط شعبي كبير، ليتم الاتفاق على إعادة الانتشار والتسليم حسب آلية الجنرال كاميرت، الذي لا يزال حتى اللحظة في المنتصف، بسبب مسرحية الحوثيين، واستهداف موكبه، الذي كان المراد منه إثنائه عن الاستمرار في مهامه حتى إتمامها.
يستحيل الوصول إلى حل نهائي بخصوص الحديدة، فالحوثيون مستميتون بخصوص المحافظة البكر في البلاد، لأنها تدر عليهم المليارات دون عناء يُذكر، لذا فمن الطبيعي جدًا أن يستميتوا عليها، ويبتكرون الأعذار، ويختلقون الأحداث التي تطيل أمد الوصول إلى حل نهائي، وهذا من وجهة نظري ما دأبت عليه المليشيا منذ إسقاطها صنعاء في سبتمبر 2014م، حتى توصلت إلى كل ما تريده، لاعبةً بذلك على عاملي الوقت وإجهاد خصومها.. فهي مليشيا متمردة ذات نفس طويل، تتخذ من عملية الإجهاد الزمني والنفسي سلاحًا لإحداث الفارق بينها وبين مناوئيها، وهذا ما تستخدمه أيضًا مع كاميرت وغريفيث نفسه، ولنا فيما يحدث بخصوص الحديدة وتبادل الأسرى دليل قطعي على تمكن المتمردين الحوثيين من استخدام هذا السلاح للوصول إلى مآربهم بأقل الخسائر.
هذا ما لم يقله كاميرت بعد، ولن يقوله، ربما لفترة، قبل أن يسلّم لهذه الحقيقة التي لا ولن يدحضها الحوثيون إطلاقًا، فهي من صميم عملهم، ومن قاموس لغتهم وأدبياتهم التي يعيها اليمنيون جيدا، حينها سيقول، وسيستقيل، وسيستقيل معه جريفيث، هذا ما لا أشك به، وأتوقع حدوثه عند انسداد آفاق محاولات كاميرت.
في قرارة نفسه، يؤمن الجنرال كاميرت بأن الحوثيين عصابة تحمل أوجهًا عدة، فهو بشكل أو بآخر توصل إلى حقيقتهم، من خلال إخلالهم بالاتفاقات المعلنة، ورفضهم الانصياع لما تقتضيه الاحتياجات الإنسانية لسكان الحديدة، إضافةً للتسليم الشكلي للميناء، وعملية الانتشار المثيرة للجدل، وكذلك تقلب آرائهم من يوم لآخر، وهذه نقطة جوهرية تلعب دورًا محوريًا في تأخير عملية إعادة الانتشار حتى اللحظة.
سيصل الجميع إلى نقطة يفترقون عندها، كالتي حدثت بين الحوثيين وبرنامج الغذاء العالمي، وهذا ما هو منتظر بين الجماعة الحوثية والمنظمة الأممية، عاجلًا أم آجلًا؛ مهما دارت الأمم المتحدة ومبعوثوها من أجل سلام شامل، فإنها ستحكي للعالم ذات يوم كيف يعبث الحوثيون بجهودها، ويستهترون بمبعوثيها، سيقول ذلك كاميرت وسيؤكده جريفيث وولد الشيخ وبن عمر، وسنطوي نحن اليمنيين مرحلة كان يُقال عنها: أنها تحمل رسالة أمل للشعب اليمني، أو كما قال جريفيث!.
اقراء أيضاً
تهامة.. خارج الحسبة الحكومية
حكومة بلا أجنحة
مبعوث السلام المستحيل