أخيراً، قررت صديقتي ترك مهنة التدريس تماماً، غير آسفة على حلمها المثالي بتنشئة أجيال تحترم وتحب لغتها العربية. صديقتي معلمة لغة عربية. والمعلم، بحسب قولها، لم يعد محترماً بذاته أو مهنته أو رسالته.
شعور الإذلال كان حصيلة متراكمة بجوار تلك المبالغ التي يجمعونها من الأهالي. يتلقى المعلمون معاملة الأُجراء عند الطلاب؛ حتى صار ولي الأمر يتهجم على المعلم بكل فجاجة، مستشعرا أنه يدفع أجرته التافهة.
لقد هبط احترام المعلم وصار في نظر الأهالي أقرب للمتسول. ربما كونه أكثر فئة تضررت من غياب الأجور، وأكثر فئة مستهدفة بالإغاثة، والكثير منهم أساء لهيبة المعلم بأساليب رخيصة.
حتى أولئك المتعاطفين مع حال المعلم المزري، يؤذونه من حيث لا يشعرون.
ففي أظرف حادثة مؤلمة، حكتها لي صديقتي المعلمة، قالت: كان لدينا في المدرسة معلمة، محط محبة أولياء الأمور من أمهات الطالبات لتفانيها في مساعدة البنات، حتى في مشاكلهن الخاصة. كانت تتلقى هدايا جميلة آخر العام كرمز لهذا الحب...
ومؤخرا، أتت إحدى الأمهات ووضعت في يدها مبلغا ماليا، قائلة: "هذه هدية تفيدك في هذا الوضع، أفضل من مزهرية أو علبة شوكولاتة".
تقول المعلمة: رغم شعوري الطيب، إلا أن الغصة خنقتني إلى أين وصل حالنا؟!!
الحقيقة لم يعد الذهاب إلى الدوام المدرسي محتملا على الإطلاق. ليس فقط لأن المعلم يظل يكدح طوال العام في نحت أذهان التلاميذ المصمتة، في عمل أقرب لأعمال الحفريات أو الأشغال الشاقة؛ وليس لأننا بلا راتب لثلاث سنوات تهدر كرامتنا ونعاني الأمرين حاجة وفقرا؛
بل صار العمل في المدرسة لا يطاق بسبب الخوف والترهيب ..!!
روح المؤامرة الشريرة تخيم على الجو في المدارس؛ عيون تراقب أنفاسك في كل زاوية، وماذا قلت؟ وماذا فعلت؟
معلم يقتاده مسلحون خلف الشمس، ليعود جثة محروقة من التعذيب !!
في مدارس البنات، أيضا، الخوف يسيطر على المعلمات!! فلا تثق مُدَرِسة إلا برفيقتها الأقرب؛ تؤدي عملها تحت ضغط الحاجة بلا حماسة !!
يستفزك كثيرا، أحاديث الأمن والأمان في مناطق الحوثيين. في حين أن الناس أسكرهم الخوف فعلا، فالبطش هو اليد الطولى !!
شواهد الضحايا، التي تتناقلها الألسن، والفتك بأصحاب المواقف، أو الرأي، أسلوب رادح وفعال في المجتمعات العربية. حتى المعلمات في المدارس، لم يسلمن من الإخفاء القسري !!
أجواء لا تليق بالتعليم. فالمدارس صارت أشبه بالثكنات العسكرية فعلا، كما أرادت لها المليشيا ..!! الذهاب إلى الدوام قسري، والخوف من العقوبة أو المعارضة، هو المسيطر !!
الدروس التي تُلقى على المعلمين، في دورات خاصة ومحاضرات توعية عن الصبر وطلب الرزق من الله فقط وليس من الحكومة والاستغناء عن فكرة المرتب والولاء للسيد...، أكثر بكثير من تلك الدروس التي تلقى للطلاب عن علوم الحياة والدين ..!!
"فكيف لا أترك مهنة التعليم، إذا كنا سنتعلم الجهل كبارا !!". تقول صديقتي.
اقراء أيضاً
عمل المرأة بين الحرية والاضطرار
اليمنيون بين قصفين
مستقبل اليمن في إحياء القومية