لطالما حاولت قوى اليسار العربي أن تقدم نفسها سندا حقيقيا للشعوب وتطلعاتها خلال عقود مضت، وبديلا مناسبا للديكتاتوريات اليسارية المتسلطة، لكن الثورات العربية وما أفرزته كشفت بجلاء حقيقة مواقف غالبية هذا اليسار، وكيف أنه يتفق مع مواقف الديكتاتوريات المستبدة التي حكمت الشعوب بالحديد والنار، وثبت أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود قلة قليلة من قوى اليسار العربي لا تزال تملك رصيدا مشرفا في مضمار العمل السياسي.
يعتقد اليسار العربي أن الديمقراطية هي الخيار الوحيد والمثالي للتعبير عن حرية الشعوب وإرادتها في اختيار من يتولى إدارة الدولة، أما إذا أفرزت هذه الديمقراطية نتائج تتعارض مع مصالحه، كأن يفوز الإسلاميون في الانتخابات، فإن الأمر يختلف في هذه الحالة، وتصبح الانقلابات العسكرية والناعمة، هي السبيل الوحيد للتعبير عن تطلعات الشعوب وإعادة الأمور إلى نصابها!
في مصر وقف اليساريون مع الانقلاب العسكري، وساندوا الجرائم المرتكبة بحق المتظاهرين الرافضين للانقلاب، وفي اليمن وقفوا مع الانقلاب الحوثي ووصفوه بالحركة الصاعدة التي ستخلصهم من القوى التقليدية، وفي ليبيا تنكروا لتضحيات الكتائب الثورية المقاتلة، ونعتوها بالإرهاب والتطرف، وفي سوريا اصطفوا خلف نظام الأسد ونعتوا الثورة بالمؤامرة، وفي كل ماسبق بدت القوى اليسارية مفرغة تماما من مبادئها التي ظلت تنشدها لعقود، وتحولت إلى أداة تستخدمها دول وأنظمة عربية وأخرى غربية في تمرير مشاريعها ومصالحها المتعددة.
يعتقد اليسار العربي أيضا، أن الهوية الإسلامية تمثل عائقا حقيقيا أمام الحرية والمساواة والتقدم، ولذلك انحصرت جل اهتماماتهم في مجالات تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، والعمل على تغريب المجتمعات والدعوة إلى تبني الأفكار الدخيلة، وهذه الاهتمامات لا يمكن أن تسد التطلعات الشعبية الباحثة عن الخبز وتوفير فرص العمل والعدل والحرية بمعناها الحقيقي، فضلا عن كونها تتعارض مع معتقدات الأغلبية من الشعوب.
الملاحظ أيضا أن اليسار الذي يعادي الجماعات الإسلامية المنخرطة في مشروع الديمقراطية، لا يمانع في التحالف مع قوى السلفية الجامية التي تكفر بالديمقراطية، وكل ذلك في سبيل الخلاص من منافسيه، فعلى الرغم من وجود تناقض فكري كبير بين الجانبين اليساري والجامي، لكن تقاطع المصالح المشتركة بينهما، ووجود عدو مشترك، وعملهما تحت مظلة عليا موحدة، يقدم تفسيرا مقنعا لطبيعة هذه العلاقة؛ فالجامية على سبيل المثال تحرم الانتخابات التي تؤمن بها الجماعات الإسلامية الأخرى، وخلو الساحة السياسية من المكون الإسلامي يعزز من حضور القوى اليسارية، وهذه نقطة مشتركة من جملة نقاط أخرى.
وإذا ألقينا نظرة على مجتمعنا اليمني، نجد حالة تناغم كبيرة، بين القوى اليسارية والسلفية الجامية، برعاية إماراتية، وهذا التناغم مؤقت كونه يقوم على الأهداف المشتركة كما أسلفنا، وأبرز هذه الأهداف هي القضاء على الثقل العسكري الذي يمثله حزب التجمع اليمني للإصلاح المحسوب على الإسلاميين، ولذلك من البديهي أن قوى عسكرية جامية تعتمد على قوى يسارية في إدارة ملفها الإعلامي، وتستند عليها سياسيا.
من مظاهر سقوط اليسار العربي، أن كثير من أتباع هذا التيار ممن يقدسون الحرية الشخصية، ويستخدمونها لتبرير تصرفاتهم ونزواتهم، يضيقون ذرعا بالآراء المخالفة لهم، ويستندون لتعزيز مواقفهم على أقوال وفلسفات كما لو أنها نصوصا مقدسة، كما يلجئون عند ضعف مواقفهم إلى إطلاق تهم التطرف والدعشنة بحق خصومهم، لدرجة أن يساريا "صغيرا"ناشد بحرقة الولايات المتحدة أن تقوم بقصف أحد جوامع مدينة تعز، بسبب نقمته على الخطيب!
جزء كبير من مسألة سقوط اليسار العربي، أنه تحول إلى أداة قمعية بيد الأنظمة العسكرية والدول الخارجية، وهذا يعكس بطبيعة الحال وجود فجوة أخلاقية بين الشعارات المرفوعة وإسقاطها على أرض الواقع، وهذا ما يصعب عملية انتشال اليسار العربي من القاع طالما اتسعت هذه الفجوة.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية