يحمل ديسمبر معه ذكرى مهمة بالنسبة لليمنيين، ففي اليوم الثاني منه فك الرئيس الراحل صالح تحالفه مع الحوثيين، وأعلن الحرب عليهم، وفي اليوم الرابع منه قتل صالح، وانتهت ثورته على حلفائه الحوثيين، ومعها انتهى طغيانه الذي امتد لأكثر من ثلاثة عقود.
حادثة مقتل صالح بدت للبعض غير قابلة للتصديق، وذلك لأن استبداد صالح وطغيانه ومعاصرة الناس لهما خلال فترة طويلة من الزمن، أصبح كما لو أنه جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية، وكان من الصعب عليهم تصديق خبرا يبشرهم بخلو حياتهم من اسم الطاغية صالح، لكن الأكثر غرابة هو أن رحيل صالح ولد حالة شعورية بالحنين إلى عهده، وهي حالة عاطفية آنية أكثر من كونها واقعية تستند إلى أسباب معقولة.
يقول الروائي السوري عدنان فرزات: "من مآسي العقل العربي أنه عندما يتعرض إلى ظلم من طغاته الحاليين، فإنه يترحم على طغاته السابقين، ولا يفكر بإيجاد بديل آخر". وهذه العبارة تصف في الحقيقة مشاعر عدد من المواطنين ممن ينحدر بهم بؤسهم إلى استحضار عهد صالح، عوضا عن البحث عن حلول حقيقية للقضاء على هذا البؤس واستنهاض الهمم للنهوض بواقع البلد.
من الملاحظ أن الحنين إلى طغيان صالح يرتبط بدرجة أساسية بعوامل كثيرة أبرزها: انعدام الوعي الشعبي وارتفاع نسبة الأمية واستعجال التغيير الذي بشرت به الثورة، إضافة إلى اتصاف اليمنيين بالعفو والرأفة، والعاطفة الغزيرة، وهذه العوامل شكّلت ما يشبه حاجزا بينهم وبين مايجب أن يكونوا عليه، ودفع باتجاه حالة شعورية تمجد طغيان صالح، وتحن إلى عهده البائد، خاصة مع اشتداد وطأة الحرب والمعاناة في أكثر من منطقة.
لا يختلف اثنان أن نهاية صالح كانت قاسية ومأساوية، وهذه النهاية يفترض أن نستحضر معها كل جرائم صالح البشعة التي ارتكبها خلال حكمه، بدلا من التعامي عن ذلك وإطلاق عبارات الترحم والحنين إلى عهده البائد.
تورط صالح في ارتكاب مجازر بشعة بحق اليمنيين، خاصة خلال الفترة الواقعة بين عامي 2011 و2017، ولعل أبرزها مجزرة الكرامة في مارس 2011، وهي واحدة من أسوأ المجازر التي عاشتها اليمن في التاريخ الحديث، لدرجة أن مراسل الجزيرة أحمد زيدان وصف المجزرة بأنها "منظر غير مألوف بالنسبة إليه" وهو الذي غطى الأحداث في مناطق الصراع بالمدن الأفغانية خلال الاجتياح الأمريكي لأفغانستان 2001.
أوغل صالح في دماء اليمنيين كثيرا، أحرقهم في ساحة الحرية بمدينة تعز، وأرهق دمهم في شوارع صنعاء، خلال مظاهرات متفرقة، في محاولة منه لإرهاب قوى الثورة وإرغامها على الرضوخ والعودة إلى المنازل، مستعينا في ذلك بفريق من المطبلين والمستشارين، وفريق آخر من البلاطجة متخصص في القتل والقنص. في إحدى المظاهرات أزال هؤلاء وجه أحد المتظاهرين باستخدام قذيفة آر بي جي!
خلال السنوات التي أعقبت الانقلاب، نفذت قوات صالح وحلفائها الحوثيين، عشرات المجازر بحق المدنيين في تعز، وكان صالح صريحا في التحريض على أبناء المدينة عندما وصفهم بالدواعش، وأمر بتصفيتهم بالقناصات، متسببا بأوجاع ومآس لآلاف الأسر، فهل كان دم صالح أغلى من دماء من قتلهم من أبناء الشعب حتى يجد هذه الحالة من التعاطف والحنين إلى عهده؟
لقد كان صالح طاغية ومستبدا كغيره من حكام العرب، وخلال حكمه الممتد لأكثر من ثلاثة عقود، لم يترك بصمة حقيقية على الأرض اليمنية، بقدر ما خلق دولة فاشلة، تنخر بالفساد بكل صوره؛دولة تقوم على الولاءات الضيقة والرشاوي والوساطات والمحسوبية من أكبر موظف في السلطة وحتى أصغر موظف.
لم يهتم صالح كثيرا بالتعليم، ولم يبذل جهدا لتحسين الوضع الاقتصادي لانتشال البلد من خط الفقر، ولم يسع لتطوير البنية التحتية واستغلال الموارد والثروات الطبيعية لمصلحة الشعب، بقدر ما كان مهتما بتنصيب مشاريعه الخاصة، وممارسة النهب والسرقة، في سبيل بناء ثروة ضخمة قدرت بأكثر من 60 مليار دولار.
وحتى المؤسسة العسكرية التي يقع على عاتقها حماية الشعب، فقد حولها صالح إلى ميليشيا عائلية تدين بالولاء لشخصه من أجل الحفاظ على سلطته المطلقة، وكان بديهيا أن تصبح هذه المؤسسة أداة حوثية في وقت لاحق، كونها تأسست على مبدأ الولاء للنظام القائم، وكانت تلك خطيئة صالح التي دفع ثمنها حياته بعد أن كان يظن أنه في مأمن!
إن حنين بعض اليمنيين إلى عهد صالح، لن ينهي مأساتهم، أو يشبع بطونهم الجائعة، أو يعيد إليهم أرواح ضحاياهم إلى الحياة، أو يعيد إليهم كرامتهم، وحري بهؤلاء التفكير بحلول جدية بدل البكاء على الأطلال.
اقراء أيضاً
سطا الحوثيون على قريتي... فصرنا غرباء
الجريمة في ظل اللادولة
موسم الهجرة القسرية