غالبا ما تهوي الحروب بالاقتصاد إلى مستويات تخلق معها المجاعة والأمراض والجهل والإرهاب وكل مظاهر الانهيار وغياب الدولة..
فكل الدول التي عانت من حروب داخلية كانت اقتصاداتها أولى ضحايا الحرب. ومثلما يتفرق الدم في الحروب الداخلية ذات الطابع الأهلي على مستوى خارطة هذا البلد أو ذاك، فإن آثار الحرب المباشرة، والمتمثلة بالقتل والدمار، لا تقل كارثية عن تبعات انهيار الاقتصاد الذي يخلف بدوره الكثير من الضحايا، ضاربا الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهاويا بها، إلى بيئة جافة الإمكانات ومحدودة الفرص.
الأطفال دائما فاتحة المأساة، وتحديدا المواليد. حيث يكونون عرضة للموت بسوء التغذية، أو بالأمراض التي تفترسهم، والتي ما كان لها أن تتفشى في أي بلد فيما لو بقي اقتصادها عند مستوى يسمح لها بأن تقوم بواجباتها التي كانت تقوم بها قبل اندلاع الحرب.
الكثير من الأمراض الفتاكة، التي كان اليمن قد تحصن ضدها واُعتُبِرَت أمراض انتهت من حياة اليمنيين، عادت لتنتشر في طول اليمن وعرضه. ومن هذه الأمراض، على سبيل المثال لا الحصر، أمراض الكوليرا، وشلل الأطفال، والجدري، وفيروسات الكبد بأنواعها وو...الخ. آفات- كما سلف وأشرنا- مرتبطة بالفقر وتخلف دور الدولة الناتج عن ضعف إمكاناتها في مكافحتها، وخلق البيئة الصحية التي تحول دون عودتها وتفشيها.
كارثة انهيار الاقتصاد، والتضخم، عرض قاتل حتمي من أعراض الحروب، لكن كثيرا من الدول التي انزلقت إلى الحرب كانت تمتلك إرادة فذة لمواجهة خطر الانهيار الاقتصادي الكلي، فعملت على تقليل آثاره بالمستوى الذي يجنب ضحاياه وقوع المصيبة كلها. شرعت هذه الدول في معالجة مشاكل الاقتصاد من خلال كوادر مؤهلة وبرامج عمل مدركة ومتقنة، وأعطت الدولة هذا الكارد كل الصلاحيات التي تمكنه من الوصول إلى جذر المشكلة وإصلاح ما يمكن إصلاحه، وغالبا ما كانت هذه الإصلاحات تستهدف ترف النخبة الحاكمة في مرحلة الحروب والانهيارات.
إذ أن السياب الذي يطبع المرحلة، بعد أن تطول مرحلة الحرب، يجعل هم هذه النخب- التي يفترض بها أن تكرس كل جهودها للعمل على انجاز المعركة- منصبا على ترفها والسعي إلى مراكمة إمكاناتها وعائداتها. لا يمكن أن يتقبل أبناء الشعب، الذي يتضور جوعا، أن تكون رواتب هؤلاء موازية لرواتب أصحاب المناصب الشاغرة في أغنى دول العالم؛ يتقاضون رواتبهم بعشرات آلاف الدولارات، بينما الجيش الوطني بالكاد يحصل على رواتبه كل خمسة أو ستة أشهر. أما بقية موظفي الدولة، فقد انقطعت رواتبهم منذ سنتين وأكثر!!
معاناة لا يمكن تصويرها تحديدا، وقد كانت الشريحة الأعظم من الموظفين تعاني ورواتبها لا زالت جارية، فما بالكم بعد الانقطاع !!
أين معالم الهم الوطني والمسؤولية التاريخية التي يتمتع بها هؤلاء؟ وكيف ترضى ضمائرهم بمثل هكذا واقع لو كانوا بالفعل لا يزالون منشغلين بالوطن ومحنته؟
التقشف الذي يجب أن يفرض على هذا الكم الهائل من الوزراء والوكلاء والمستشارين...الخ، يعتبر أحد أهم الخطوات التي يجب أن تبدأ بها الشرعية في معالجة الأثار القاتلة لتلاشي الاقتصاد اليمني. هؤلاء يجب ألا يحصلوا على أكثر مما كان يحصل عليه أقرانهم إبان حكم صالح. هذا إن لم يكن أقل من ذلك بكثير.
ثم أنه من المفترض أن يتقاضوا رواتبهم بالعملة الوطنية؛ بالريال لا بالدولار. لأن إعطائهم إياها بالدولار، من أسباب الاستنزاف الجاري للعملة الصعبة من اليمن، خصوصا وأن أكثر من تسعين بالمائة من هؤلاء مقيمين خارج البلد، وهم أقرب إلى وضع الاغتراب منهم إلى مسؤولي دولة!
أما الرهان على قدرة الشرعية في جمع العائدات وتوريدها إلى البنك المركزي، كخيار ضروري لتعافي الاقتصاد، يبدو صعبا، لكنه ليس مستحيلا. يبدو صعبا، لأننا نعيش مرحلة السلطات المتعددة التي تعمل كجزر معزولة عن بعضها، وليس هناك للشرعية ما يمكنها من تجميع كل عائدات المناطق المحررة وإعادة بناء سيولة تضمن استقرار العملة. حتى لو كان هذا الاستقرار بحده الأدنى.
كما أن إعادة تصدير النفط والغاز، خطوة ضرورية جدا، لجلب العملة الصعبة. فهما، كانا يمثلان ما نسبته أكثر من تسعين بالمائة من صادرات اليمن، وبدون إعادة التصدير سيستمر استنزاف ما تبقى من العملة الصعبة داخل البلاد. وهو ما سيقود نحو مزيد من تدهور قيمة الريال، تدهورا لن يتوقف عند حد.
هذه مهمة لا تستطيع الشرعية القيام بها بمفردها، ولكنها ستكون في المتناول إذا ما كرَّسَ التحالف جهودا في هذا الاتجاه.
اقراء أيضاً
بل كانت حربا على الحياة برمتها
"العودة".. حلم نازح
الجُهد الوطني المهدور