"ارتفع الدولار"، العبارة الأكثر ترددا على رصيف الجوع اليمني؛ هي الكابوس الذي يباغتنا كل يوم بجرعة سعرية تخرّج أفواجا جديدة إلى حياة الجوع.
يرددها حتى أولئك الذين لا يعرفون الرابط العجيب بين معاناتهم وبين الدولار..! لكنهم يقولونها في كل مناسبة مرادفة لمقولتهم الشهيرة "الله ينصر الحق".
عبارة "ارتفع الدولار"، أصبحت وحش خرافي آخر ينضم إلى التراث الشعبي اليمني المخيف، بجوار (الطاهش) و(الصياد) و (أم الصبيان) و (بني كليب).
صار حدثا شبيها بـ"ثقب الأوزون"، لا حلول لترقيعه بأي ودائع كاذبة؛ إنه ثقب يبتلع المواطن اليمني إلى مجهول المجاعة والفاقة.
في طريقي وجدت ذلك الفتى الصغير وهو ينادي لبضاعته التي يحملها على ظهره في حزمة كبيرة. كانت مضارب للذباب، صناعة يدوية لا تشبه البضائع الصينية السيئة المتوفرة في الأسواق. ولأن الذباب أصبح أحد معالم مدينة إب لكثرته وشراسته، قررت شراء أحداها.
سألته : بكم المخبط يا أبني؟
فرد علي بحماسة: بألف وخمسمائة يا خالة.
صدمني السعر الباهض، فقلت له: غالٍ كثيرا يا ولد.
فقال بسرعة: أرتفع الدولار يا خالة.
قلت له، وأنا ابتسم: وما دخل بضاعتك بالدولار؟ كما يبدو أنت تصنعها يدويا من بقايا الإطارات؟
فقال لي، وعلامات الاحباط ترتسم على وجهه: هذه المضارب التي يصنعها أبي هي مصدر رزقنا الوحيد، بثمنها نشتري الدقيق والأرز والماء وكل ما نحتاجه، وهذه المواد أسعارها أصبحت جنونية بسبب ارتفاع الدولار. ثم أردف: هذه هي علاقة مضارب الذباب بالدولار يا خالة.
فقلت في نفسي: وكم تشبه علاقة الإنسان اليمني بالدولار؛ فالدولار لا يرتفع، إنما نحن نرخص في عيون الساسة والمجتمع الدولي الذي يتفرج على مأساتنا بصمت المستمتع.
ناولته ثمن مضرب الذباب، وأنا أقول له: أنا اشتريت منك لأنك ولد رائع تساعد أباك وتحسن الاقناع، أما ثمن المضرب فغالٍ جدا، لم يرق لي أن أقتل الذباب بألف وخمسمائة ريال...!!
فرد باسما، وهو يدس المال في جيبه: أن تقتلي الذباب بألف وخمسمائة ريال، أفضل بكثير من أن يقتلك هو بالكوليرا أو الدفتيريا ببلاش.
ضحكت وأنا أجرب المضرب برفق على رأسه وأقول له: أنت ولد باهر.
ولكي لا أنسى، فالذباب أيضا يعرف بأمر ارتفاع الدولار، والدليل على ذلك أنه يعرف الفقراء ويسلط تواجده في أماكنهم بكثافة مميتة.
ألم يقل الشاعر:
حتى الذباب إذا رأت ذا ثروة؛
خضعت له وحركت جناحاتها.
وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً؛
هجمت عليه واصابته بأمراضها
مع المعذرة للشاعر.
اقراء أيضاً
عمل المرأة بين الحرية والاضطرار
اليمنيون بين قصفين
مستقبل اليمن في إحياء القومية