كأن العيد حل على اليمنيين فجأة وعلى غير ميعاد؛ قلوبهم مكلومة؛ غارقون بالحزن والهم؛ ووجوههم شاحبة، تحاول جاهدة أن ترتسم عليها ولو أطلال بسمة، تلك التي لا تلوح إلا على وجوه القليل، أما السواد الأعظم منهم فكانت مصائبهم أكبر من أن ينتزعوها من بين فكي الألم والحزن العميق.
العيد أحد ضحايا الانقلاب، بكل ما كان يعنيه لليمنيين من فرحة غامرة يعبرون عنها بأكثر من طريقة تزخر بالموروث المنعش والمتنوع. حتى أن كل عيد عند المغترب اليمني- دون عيد اليمن- مأتم، مالم يعش مباهجه على طريقتها التقليدية، وبين أهلها وفوق ترابها.
اغتال الانقلاب العيد، وسفح الدم على مستوى خارطة اليمن. فلا تكاد تخلو قرية أو مدينة من فقد شخص كان قريب من قلوب الجميع. وما أقربها تلك الأيام التي كان فيها شهداء المقاومة يمثلون مشعلا من مشاعل فرحته وبهجته، وإذا بالموت يخطفهم على يد واحدة من أكبر عصابات التاريخ إرهابا ووحشية.
خرجت قبل أن تبزغ أولى خيوط الشمس من شقتي بثيابي المعتادة- إذ لم أشعر ولو بأثر من الرغبة لشراء ثياب جديدة- مثقل الخطى نحو شارع جامعة الدول العربية في وسط القاهرة لأداء صلاة العيد مع جموع المصريين. وكنت حريص على حضور صلاة عيد الأضحى، خصوصا وقد فاتتني صلاة عيد الفطر، وشرح لي الشباب جلالة وهيبة وروحانية المشهد، فقررت ألا تفوتني هذه الفرصة، وأن تكون تعويضا عن فوات سابقتها.
كنت أشعر بجموع المتوافدين، الذي يشبه ذلك المشهد تماما، عندما كنا نتوافد إلى منطقة انطلاق المسيرة أيام الثورة الشبابية في صنعاء. لكنني كنت منشطرا بين المشهد وبين تلك الهواجس التي تتداخل في ذهني، وتلك العبارات والأسئلة المحيرة التي تصعد إلى مخيلتي. كنت أسأل نفسي بجدية: لمَ أنا هنا؟ أئنا هنا طوعا أم نفيا؟ ثم ما هذا المشهد العيدي الذي يختلف تماما عن تلك التي عهدتها وتركت أثرها منقوشا على جدار القلب وبين ثنايا الروح؟
أسئلة كانت تمهيدا لإدراكي أن عيدنا مغدور به، وأطفالنا مجني عليهم، فمنهم من حال الموت بينهم وبين أباءهم دون أن يقضوا عيدهم معا، ومنهم بفعل التهجير والنفي والنزوح ..! لقد قلت لنفسي: ما قيمة العيد بالنسبة إليَّ، إذا لم أمسك يد أطفالي وأحتضنهم كما يفعل كل هؤلاء الاباء مع أبناءهم داخل هذا المشهد الفرائحي العظيم ..! قلت محدثا نفسي: لا قيمة للعيد مالم تملأ قهقهة أطفالك أذنيك، ولا تغتسل بحنان صوت أمك وأبيك، وأنت تزهو بفرحة العيد بينهم، كما يفعل هؤلاء القوم أمام عينيك وقد طارت أرواحهم بنشوة اللحظة وتلك السعادة تحديدا التي يبعثها الأطفال في كل اتجاه.
مر الوقت وفرحتي محاصرة بين الهموم، وتائهة بين المسافات الطويلة، لكنني تذكرت أن ثمة مأساة أجَلَ من مأساتي وأعمق؛ مأساة أطفال وأسر الشهداء، في مرحلة يبدوا أن ضغطها جعلنا جميعا مقصرين بحقهم إلى الحد الذي يدعوا للخجل والتواري. كلنا مقصرون بحقهم، وكلٌ حسب قدرته ومكانته.
فالشرعية لم تقم بواجبها تجاههم كما يجب، ولا نحن استطعنا أن نقاوم كآبتنا ونتصل بأسرهم، على الأقل، ليشعروا أن من كانوا معهم لم ينسوهم. لقد شعرت بالذنب وأنا المعدم غير ذي سلطة، فقلت في نفسي: كم هو جميل لو أن شرعيتنا شعرت بهذا الذنب وقررت أن تولي أسر الشهداء، وأن ترعى أطفالهم، حتى وإن كان بجزء يسير من ذلك الحجم الهائل من العناية والرعاية التي تقدمه لوزرائها ووكلائها، الذين ملأت أسماؤهم مئات القوائم.
إن واجبنا تجاه شهدائنا، هو معيار مدى التزامنا الوطني والأخلاقي. وما دامت هذه الحلقة معتمة، فلا معنى لأي حلقة تضيء بجوارها.
لقد صار الآخرون يفرحون بالعيد من حولنا، غاضين طرفهم عن مأساتنا التي هم جزء في وقوعها. لقد صار وضعنا بالنسبة إليهم مثل أيتام حول مائدة اللئام.
إذ كان بالإمكان أن يخففوا الكثير من معاناتنا بسقط متاع مائدتهم المتخمة ...! كان بإمكانهم أن يدعموا قيمة الريال ليصمد أمام غيره من العملات، ويحافظ على الأسعار بالمستوى الذي يُمكِّن الناس من الحصول على ما يبقيهم على قيد الحياة.
اقراء أيضاً
بل كانت حربا على الحياة برمتها
"العودة".. حلم نازح
الجُهد الوطني المهدور